إن الأخوة في الله تعني أن تكون أخوة في الله، من أجل الله حقاً، تعني أن نكون كما قال صلى الله عليه وسلم:(أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
قد يحب المرء أخاه لله، لكن مع ذلك قد يكون من وطنه، أو قد تكون ثمة رابطة حزبية أو قبلية أو عنصرية أو جاهلية، قد تأتى هذه الرابطة فتزيد الأخوة أخوة والمحبة محبة، فتبقى حينئذ رابطة الجاهلية، وحين تزداد محبتك لفلان وتنقص لفلان، والدافع لذلك انتماء وطني أو فكري أو حزبي أو قبلي فاعلم أن محبتك مدخولة، وأن أخوتك مخدوشة.
فالأخوة في الله -معشر الإخوة الكرام- تعني أن نتجاوز كل هذه الحواجز تعني أن نتجاوز كل هذه النظرات، فالذي يحب في الله ويؤاخي في الله، لا فرق عنده بين من كان من هذه البلاد ومن كان من تلك البلاد، لا فرق ولا ميزان ولا معيار على أساس الانتماء، ولا أساس الأصل ولا غيرها من تلك الموازين الهشة، قد يستطيع المرء أن يجمع خليطاً متناثراً من هذه الموازين، فتقوم صلته على أساس إقليمي وحزبي وفكري وقبلي، أما الأخوة في الله، فهي بنيان متفرد لا يقبل غيره، وحين يدخل عامل آخر فالنقيضان لا يجتمعان، فهي لا تعيش إلا وحدها، ولا تنمو إلا بعيدة عن سواها من الروابط، فحين نريد الأخوة حقاً في الله فلنخلصها من كل رابطة من روابط الجاهلية! وعجباً لهذه الأمة التي أكرمها الله بعد أن كان يقتل بعضها بعضاً، ويسبي بعضها بعضاً، وبعد أن كان منطق الجاهلية هو المنطق السائد، وقانونها هو المحكم، وأعرافها هي تلك الأسوار التي لا يقبل أحد أن يتسورها، عجباً لهذه الأمة بعد أن انتشلت من هذا الحضيض أن يخرج فيها من يريد أن يعيدها جذعة مرة أخرى، فبعد أن ارتقت هذا المرتقى، وصعدت إلى هذه المنزلة تعود مرة أخرى لتشد إلى خيوط الجاهلية وجواذبها.
ولهذا حين كسع غلام لرجل من المهاجرين غلاماً آخر من الأنصار فتنادوا: يا للمهاجرين! ويا للأنصار! غضب صلى الله عليه وسلم وقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)! متى عرف أولئك مصطلح المهاجرين ومتى عرفوا مصطلح الأنصار؟ إنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا بعد أن جاء الإسلام، لم يعرف أولئك إلا قريشاً وبني مخزوم والأوس والخزرج وغطفان، هي تلك المصطلحات التي كانت سائدة عند أولئك، أما مصطلح المهاجرين فلم يعرف إلا حين فر أولئك بدينهم، والأنصار لم يعرف إلا حين تبوأ أولئك الدار والإيمان فآثروا إخوانهم، فإنه إذاً مع أنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا تحت دائرة الإسلام، يرفض صلى الله عليه وسلم أن يتعصب أولئك لهذا الاسم، وأن يتحزبوا هذا التحزب.
مع أن هذا الاسم اسم شرعي بحت لم يعرفوه إلا بعد أن دخلوا هذا الدين، فكيف بعد ذلك بالأسماء التي خير حالها أن تكون عليه مصطلحات تواضع الناس عليها، أفيسوغ بعد ذلك أن تكون مقاييس يتنادى عليها، ويوالى ويعادى من أجلها، إنها بحق دعوى الجاهلية، ومن دعا بدعوى الجاهلية وتعزى بعزاء الجاهلية فهو جدير بأن يعير بتعيير الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم:(من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا).