للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحث على التحرز والبعد عن مواطن الفتن]

من الجوانب والدروس: هؤلاء حينما استيقظوا وأرسلوا أحدهم، قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:١٩] ينتبه ويحذر ويكون إنساناً فطناً: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:٢٠].

وأشار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى جزء من هذا المعنى قال: ومنها -يعني من فوائد هذه القصة- الحث على التحرز والاستخفاء والبعد عن مواطن الفتن في الدين واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين.

أقول: هنا جوانب مهمة، وهي أولاً: أن المسلم ينبغي أن يفر من الفتن ويبتعد عنها وينأى عنها، فإذا جاءت صبر وثبت، وهنا يقع الخلط، إما أن يغلب الإنسان الثبات والنظر إلى الأجر الذي يترتب على الثبات على الفتنة والابتلاء فيبحث عن الفتنة ويسعى إليها، وهذا غير مشروع، ودليل على ثقة الإنسان بنفسه، وقد يكون سبباً في أن يوكل الإنسان إلى نفسه وإذا وكل الإنسان إلى نفسه ضاع وتاه، ولهذا فمن المهم أن يبتعد عن الفتن ويحذر منها بالوسائل المشروعة، فإذا جاءت ثبت.

في قصة أصحاب الأخدود لما جاء الغلام قال: إني رأيت دابة سدت على الناس الطريق وقتلتها فذهب الناس، فقال الراهب: أي بني! قد غدوت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي! أخذ الموقف حين رأى أن الغلام أفضل منه فشعر أن من سنة الله أنه سيبتلى، ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة وقال له ما قال، قال: (ليتني حياً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)، فأي رجل يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يواجه وغيره، لكن ما هو الحل؟ الثبات والفرار من الفتن، فالراهب ماذا قال للغلام؟ قال: إن ابتليت فلا تدل علي، لكن لما عذب الغلام وما أطاق ودل على الراهب ثبت الراهب فما ترك دينه وما تخلى عن دينه.

أيضاً: الفرار من الفتن لا يدعو المرء إلى أن يرتكب ما حرم الله، أو أن يدع ما أوجب الله عليه بحجة الفرار من الفتن، فالميزان هو ميزان الشرع، ولهذا فالنظرة المتكاملة لهذه القضية تمنع الإنسان من الشطط هنا أو هناك، يعني: من الغلو في النظرة إلى الجانب الآخر وثقته وإفراطه بنفسه، أو من الغلو في مسألة الفرار من الفتن؛ فيرتكب الحرام ويدع ما لا يسوغ له أن يدعه بحجة الفرار من الفتن، والثبات بيد الله، تركت أم فعلت، فسلم أمرك لله عز وجل يوفقك الله ويعينك تبارك وتعالى.

أيضاً: في هذه القصة الحرص على الدين والشح بالدين، ولهذا جعل الحافظ البيهقي من شعب الإيمان: الشح في الإيمان بالدين، وهنا قال: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:٢٠]، حرصهم على دينهم وشحهم بدينهم جعلهم يفرون من قومهم، ثم يأوون إلى الكهف، ثم أرسلوا واحداً فقط ما أرسلوا اثنين أو ثلاثة، فذلك أسهل للتخفي، ثم حذروه: تلطف؛ لأننا إذا عدنا إلى قومنا صرفونا وصدونا عن ديننا.

فينبغي أن يشح المسلم بدينه، وأن يكون حريصاً عليه، وليست القضية أن نأخذ هذه الصورة القريبة ونجعلها هي القاعدة، بل نأخذها على مدى أوسع، يعني: إذا كان هؤلاء يأتيهم الخطر على دينهم من جهة أن يظفر بهم قومهم المشركون فيصدونهم عن دينهم، فغيرهم من الفتية والشباب الذين لهم أسوة في هؤلاء قد يكون الخطر عليهم من أن ينظر أحدهم إلى صور عارية أو إلى مجال أو ميدان فيه سفور وتبرج أو إلى أي فتنة أخرى.

فلا بد أن يكون المسلم شحيحاً بدينه، وفاراً من الفتن وحريصاً على دينه، وهذا من أسباب توفيق الله عز وجل وتثبيته.