[ضرورة أن يتعاون المجتمع كله في نشر دين الله تعالى، فالعلماء وحدهم والحكام وحدهم لا يقدرون على ذلك لوحدهم]
الأمر الرابع: أن الدعاة وحدهم والقادة وحدهم لا يمكن أن يصنعوا شيئاً: وهذا ليس شأن هذه الأمة فقط بل الأمم السابقة كذلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤٦ - ١٤٧].
فهذا النبي ما قام وحده، وهذا النبي ما قاتل وحده وإنما قاتل معه ربيون كثير، وعندما يتخلى هؤلاء عن النبي فقد لا يصنع شيئاً، أعني: أنه قد لا يتحقق له النصر والتمكين في دار الدنيا، ونجد مصداق ذلك في قصة موسى مع بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:٢٠ - ٢١].
فدعا موسى بني إسرائيل إلى دخول الأرض المقدسة: ((ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)) يعني: الأرض المقدسة مكتوبة لهم فيحتاج الأمر إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة فقط، فرفض بنو إسرائيل أن يستجيبوا لدعوة موسى، فقام رجلان بواجب المناصرة والتأييد لموسى، {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:٢٣]، فالقضية تحتاج فقط إلى مجرد الدخول على القوم الجبارين، وحينئذٍ إذا دخلتموه فإنكم غالبون، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣].
وحينئذٍ صرحوا بأنهم لا يملكون أي استعداد إطلاقاً لدخول الأرض المقدسة، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:٢٤] فحتى ما قالوا: اذهب أنت وربنا، أو أنت والله سبحانه وتعالى، وإنما بلغ سوء أدبهم مع موسى أن قالوا: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)) فالقضية ما تعنيهم، القضية تعني موسى، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] يعني: نحن عندنا استعداد أن ننتظر الآن في هذا المكان، واذهب أنت وقاتل، وإذا فتحت المدينة حينئذٍ لدينا استعداد أن ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.
فقال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:٢٥].
وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:٢٦].
وحرمت عليهم أربعين سنة، وبقوا في التيه أربعين سنة، ثم ولدت ذرية تربت على القسوة، وعلى الجدية، وتركت حياة الذل والاستعباد، فلما جاء بهم يوشع بن نون خطب بهم فقال: لا يتبعني رجل تزوج امرأة ولما يدخل بها وهو ينتظر أن يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى داراً وهو ينتظر أن يسكنها، ثم ذكر كل ما يقطع الناس ويعلقهم في الحياة الدنيا، فجاء بهذه الصفوة، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، وكانت الشمس ستغيب على ليلة السبت، وقد حرم عليهم القتال يوم السبت، ففتح الله عليهم.
إذاً: مع وجود موسى، ومع وجود هارون، ومع وجود الرجلين اللذين يخافان الله سبحانه وتعالى، مع ذلك عندما تخلى الأقوام لم ينتصر موسى، ولم يدخل الأرض المقدسة.
الشاهد هنا: أن الداعية وحده، أو القائد وحده لا يمكن أن يصنع شيئاً ما لم تسر الأمة وراءه، وما لم يكن معه ربيون كثير، يقاتلون في سبيل الله، ولا يهنون، ولا يستكينون، ولا يضعفون لما أصابهم في سبيل الله.
ولذلك يقول الشافعي عن الليث بن سعد: كان الليث أفقه من مالك، ولكن لم يكن له أصحاب يقومون بفقهه، فـ الليث بن سعد على الأقل في رأي الإمام الشافعي أفقه من مالك، ومالك أخذ شهرة ومكانة وأتباع لم يأخذها الليث بن سعد، بل لعلك -للأسف- تجد بعض طلبة العلم قد لا يعرف من هو الليث بن سعد! فما الذي جعل مالكاً يقوم وينتشر مذهبه؟ أنه كان له أصحاب يقومون بمذهبه، فمع أن