قد ينطبع في الأذهان حين نتحدث عن الشخصية الجادة أو الرجل الجاد أن الجد الذي نعنيه هو المعنى المضاد للهزل والضحك، وأننا نعني بالرجل الجاد ذاك الذي لا يمزح إلا نادراً ولا يضحك إلا لمماً، ولا تبدو منه الابتسامة إلا في الحول مرة أو مرتين.
لا شك أن استمراء الضحك والهزل والفكاهة مدعاة لموت القلب، لكن ليست في الضرورة هذه التي نريد، وماذا نريد من رجل صامت قد أطرق رأسه، ماذا عسى أن يصنع في هذا العصر الذي تواجه الأمة فيه تحديات وتواجه فيه الخطورة، إن هذا أسهل حل يمكن أن يسلكه المرء، أعني: أن يطرق وأن يخرس لسانه وأن يستمع ولا يتحدث وينظر ولا يتحرك ولا يعمل.
إننا حين نطلب الشخصية الجادة فإننا لا نعني مثل هذا النموذج، إنما نعني الرجل الذي يملك صفات محددة، ويمكن أن نلخص هذه الصفات بصفات ثلاث: الأولى: العمل والإنتاج، إن الرجل الجاد الذي نعنيه ونريده هو الذي يعمل هو الذي ينتج هو الذي يعمل أكثر مما يتحدث وحين تريد أن تتفقد مدى جديتك وأن تعرف مدى القدر الذي تحمله من هذه الجدية فانظر إلى نفسك وإلى عملك: كم يشكل العمل من اهتماماتك، وما هي النسبة بين حديثك وعملك بين مقترحاتك وأعمالك بين أفكارك العالية الطموحة وما تقدم وتعمل، فالرجل الجاد هو العامل الذي يعمل في كل الميادين والظروف.
أيضاً من المواصفات الهامة: جدية الاهتمامات، الناس تأسرهم اهتمامات شتى في هذا الواقع، فمنهم من الدنيا أكبر همه، ومنهم من همه الشهوات، ومنهم من همه الرياضة واللهو اللعب، ومنهم من همه تحصيل الجاه أمام الناس، وهكذا تتنوع اهتمامات الناس، انظر الآن كم تأخذ قضية الفن والرياضة من أجيال المسلمين من أوقاتهم ومن حماسهم ومن اهتماماتهم، أليست هذه صورة وعلامة وأمارة على قلة الجدية.
إن الرجل الجاد قد يمتع نفسه بشيء من الرياضة واللهو المباح لكن أن تسيطر عليه هذه القضية وتشغل باله وتصبح من الأولويات لديه فهذه أمارة على قلة جديته.
وقل مثل ذلك في ذاك الشخص الذي أصبحت الدنيا أكبر همه وأصبحت هي قضيته الأولى والأخيرة، فلا يفكر إلا في المستقبل والمستقبل هنا ينتهي بالدنيا قضية الدار الآخرة غير واردة عنده فيما يتعلق بالمستقبل، لا يفكر ولا يقيس الأمور ولا يزنها إلا بما يجلب له الخير والمصلحة في الدنيا.
إن هذه الشخصية التي تقف اهتماماتها عند هذا النموذج أو ذاك شخصية غير جادة، وشخصية لا ننتظر منها النتاج، فحين نراجع اهتماماتنا والقضايا التي تشغلنا نستطيع أن نقيس من ذلك مدى جديتنا.
المعيار الثالث والمقياس الثالث: أوقاتنا وكيف نعتني بها وكيف نصرفها، وانظر إلى المرء كيف يتعامل مع وقته وكيف يقضي وقته لتقيس مدى جديته، ومدى جدية الحياة لديه؛ لأن الرجل الجاد يشعر أن الوقت هو حياته هو عمره هو رصيده؛ ولهذا يضن به ويبخل به، ويكون كما قال السلف: أدركنا أقواماً كانوا على أوقاتهم أحرص منكم على دراهمكم ودنانيركم.