للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يختاره، وما طابت عليه نفسه، وأن يتوجّه إلى ثغر دمياط معزَّزًا مكرَّمًا فيقيم به، ويسكن هناك بأيّ مكانٍ اختاره هو، ومعه من شاء من خَدَمه وحَشَمه وغير ذلك، ولا يُمنع من ركوب ونزول وغير ذلك، ويتوجّه هو إليها من القاهرة باختياره، من غير ترسيم، ولا من سفره إلى دمياط. واطمأن الظاهر تمربُغا بهذه الأشياء لما بلغه عن السلطان، وشكره على ذلك.

ثم لما كانت هذه الليلة بعث إليه بأن ينزل بين العشاءين، ولما توجّه إليه من يخرجه من البحرة لإنزاله أخذه، وجاء به من على طريق الحريم وهو ماشٍ، وبينا هو في أثناء ذلك قام الأشرف قايتباي لما عرف بأنه قد قَرُب مروره واجتيازه بدِهليز الحريم، وكان نوى توديعه، فأسرع الأشرف في مشيه، وتوافيا بالقرب من سيدي الشيخ الرُدَيْني، وكان مع الأشرف هذا جماعة من الأمراء والأعيان من الخاصكية، والفانوس بين يدي كل من السلطانين، المتّصل والمنفصل، فبادره الأشرف بالسلام حين تلاقيا، ثم اعتنقه وأهوى على يده ليقبّلها، فمنعه من ذلك، ثم تنحيّا عن الطريق، وشرع الأشرف في الاعتذار له عمّا وقع مشافهة، وأنه ليس ذلك باختياره ولا قصده، وتمربُغا يُظهر قبول عذره وفرحه بكونه تسلطن هو، وقال له: أنا وأنت كشيء واحد، وقد اختارك اللَّه تعالى لهذا الأمر، والأشرف يزيد في تعظيمه. وكان قد حضر معه الأتابك جانِبَك قُلقسيز ويشبُك من مهدي، وتمر الحاجب، وجماعة أُخَر من خواصّهما وجماعتهما، فأشار لهم بالوقوف، ثم تنحّى هو هايّاه قليلًا، واختلى به، وتكالما (١) سرًّا بكلام طويل كثير وهما واقفان، ثم تعانقا وتباكيا، ومشى الأشرف معه بعض خطوات كالذي بين أياديه، وتمربُغا يسأله في الرجوع، ويُقسم عليه مكرّرًا عليه ذلك، وافترقا متوادعَين على أتمّ وجه وأكمله، وعُدّ ذلك من غرائب النوادر، ومن غاية محاسن الأشرف هذا وفضائله. ثم وادعه (٢) من حضر مع السلطان من الأمراء واحدًا بعد واحد. وما قبّل يشبُك من مهدي يده أعطاه ألفَي دينار ذهبًا، دفعها لبعض مماليكه بحضرته، وبعث إليه للبحر بخمسة (٣) قناطير من السكر، وبستمائة إردبّ من المُغَلّ، وأشياء أُخَر.

ثم نزل تمربُغا بعد أن قُدّم إليه مركوب من جياد خيله، فركبه وسار إلى جهة الساحل من على باب القرافة، ومعه جماعة من خُشداشيه وأصحابه، وغالبهم كالمودّع له، والماشي في خدمته، وهو في غاية الحشمة والعظَمَة في سيره، من غير توكيل به، ولا هو في هيئة من أُنزل من السلاطين غير ما مرة في حال خلْعهم،


(١) الصواب: "وتكلّما".
(٢) الصواب: "ودّعه".
(٣) في الأصل: "بخمس".

<<  <  ج: ص:  >  >>