للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

طرابلس، ثم دخلنا برقة فشقّيناها من على الطريق الوسطي لا الساحل، لأن الركب اختشى من التوجّه من على طريق الساحل من شرور عربان برقة وأذاهم، لكونهم غالبًا في هذه الأيام يكونون بالساحل، وقطعنا عقبة المراس، وتسلّمنا البساط من أرض برقة، وبقينا بها ليالي وأيامًا، ورأينا أرضًا عجيبة وبلادًا خربة غريبة لم يبق إلّا رسومها وبعض الآثار، وهي بطحاء لا جبال بها ولا تلال ولا عمران، وتعجّبت من سيرنا فيها بلا ما يدلّ على الطريق حتى ولا آثارها. وكنا نرى بها شيئًا كثيرًا من النعام كبارًا سمينة يُخيَّل لناظرها من بُعد أنها شجرة. ورأينا مدينة لبنا (١) وهي خراب، مدينة عظيمة كانت مبنيّة بالرخام الأبض، وأكثر جدرانها قائمة على أصولها، محكَمة البناء، ورأَينا عندها من بلدان خربة. ثم اجتزنا بالبساط بالبئر المعروفة ببئر سادنو (٢) وهي من أعجب الآبار، عميقة جداً، وإذا رُمي إليها الحجر لا يُسمع صوته لبُعد المسافة بين فمها ومائها. وقاسينا في طريقنا من المشاق ما لا يُعدّ، ولقينا بعض العربان وأخافونا، بل ربّما قصدوا نهب الركب، وأخذوا أشياء من أثاث الناس، وداروا بنا أياماً، وما سلّم الله تعالى منهم إلّا بعد جهد جهيد، وخوف شديد، حتى وصلنا إلى عربان لبيد، وكانت بلادهم مخصبة، ولم يعترضونا بسوء، وأقاموا لنا أسواقًا، وسرنا بعد ذلك إلى جهة الإسكندرية، وكان ما سنذكره.

[[شهر رمضان]]

[صيام المؤلّف مع الركب والمعاناة من العطش]

وفيها رؤي (٣) فيها هلال شهر رمضان ليلة الأحد، فأصبحنا صيامًا بالطريق. وحصل لنا في أوائل هذا الشهر عطشة بالطريق لقلّة المياه، وكاد أن يهلك الكثير من الناس، وخلّص الله تعالى بالوصول إلى الماء، وكان مَنْ معه الماء من الناس خافوا واختشوا من هجوم من لا ماء معه عليهم لأخذ الماء منهم، فألهمني الله تعالى أن جعلت قِربة معي فيها الماء في غرارة، وأظهرنا أنه لا ماء معنا، إذ ما معنا لا يكفينا إلّا بجهد، ولو غفلنا عن إخفائه لهلكنا عطشًا مما كان من قلّة الماء. وكان معنا ابنة صغيرة لي لا صبر لها عن الماء وأنا خائف عليها.


(١) هي مدينة لبنى المجاورة لمدينة بنغازي.
(٢) المرجح أنها مدينة الأبيار المعروفة الآن بين بنغازي ومدينة المرج.
(٣) في الأصل: "راي".

<<  <  ج: ص:  >  >>