للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذلك العسكر السفلي وهو مقصدهم الأعلى ومطلوبهم الأقصى وتوسّمه المؤيَّد وفهمته عن جماعته، فقصد أن يسلِّم نفسه بطلب أمان ونحوه، ثم أنِف عن ذلك لشهامته، ولم تطاوعْه نفسه عليه، لا سيما وقد ذاق طعم المُلْك، وتمكّن منه، والعزّ بعزّ السلطنة مع الرجاء وتوهُّم البقاء، وإن كان قد غلب على ظنّه الزوال كلّية أمسك عن ذلك القصد في ذلك الوقت هذا، ولا علم عند العسكر السفلي بشيء من ذلك بدلهما كان الغالب على ظنّهم طول الأمر منهم قياسًا على توبة المنصور، ولم يتوهّم الواحد منهم أخْذ القلعة في هذا اليوم ولا عن قرب، لا سيما الأشرفية، فإنهم كانوا يظنّون أن الأمر يتطاول ويتسلسل حتى يحضر جانَم نائب الشام، بل وتسلطنه، ثم يأخذون القلعة له، لكنهم أصبحوا في هذا اليوم وقد قويت شوكتهم وكثُر عددهم، وقصدهم كل أحد في هذا اليوم خوفًا ورعاية، وطلّبوا الأطلاب حتى بعثوا إلى دار يونس الدوادار، وكان مريضًا مرض موته، وطلبوا منه أن يجهّز لهم طلبًا من مماليكه سيّر يقول باللبوس والعُدَد الكاملة، فما أمكنه إلّا إجابتهم وتجهيز ذلك وإن كان ذلك ليس بغَرَضه ولا بقَصْده، لكنه اضطر إليه وأجاب، وبينا هم في ذلك إذ ورد عليهم خبر المؤيَّد وتفصيل أحواله وما هو فيه وعرفوا حاله وتحقّقوا زواله في هذا اليوم، فقوي عزمهم وتوفّرت هممهم، وكان المخبر قد بالغ في ذلك واجتهد فيه، وأخذ في تحريضهم، وذلك لغرضٍ من الأغراض تشجّع بهذا الكلام كل جبان، وزاد به شجاعة الشجعان، فعند ذلك أجمعوا على القتال، واجتمعوا للمحاربة والنضال، وهجم طائفة منهم على باب السلسلة بعد أن ألقوا فيه النار، وزحف الباقي من العسكر على القلعة زحفة واحدة، وجدّوا في القتال، وأخذ عسكر المؤيَّد في مقاتلتهم ساعة هيّنة، وفكّر المؤيَّد في أمره ورأى بعقل أن ذلك لا يفيده، بل مما يزيد في قسوتهم عليه، فلم يكن دأبه إلّا أن أمر أصحابه بالكفّ عن القتال، وقام من وقته وصعِد القلعة لخواصّه وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاؤوا (١)، وترك باب السلسلة، ثم دخل إلى والدته الخَوَند زينب، وتفرّقت جماعته وتشتّت شملهم، وفلّ عسكره كأنه لم يكن، وزال ملكه في أقلّ من لحظة، فسبحان مالك الملوك من لا زوال لملكه وبقائه، وهكذا شأن الدنيا، ولقد صدق من قال:

ألا إنّما الدنيا كأيكة ناظرٍ … إذا اخضرَّ منها جانبٌ جفّ جانبُ

فلا تكحّلنّ عينيك (٢) بها بنظرةٍ … على ذاهبٍ منها فإنك ذاهبُ


(١) في الأصل: "شاوا".
(٢) في الأصل: "عيناك".

<<  <  ج: ص:  >  >>