للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المذكور على العادة في ذلك، ومحمد أخو السلطان بعده راكب بغير قيد ولا رديف، وكذا المؤيَّد بعدهما، وأُنزل بهم من باب السلسلة في جمْع حافِلٍ من الفرسان وأعيان الخاصكية وبعض الأمراء، والكلّ بآلة الحرب والرماح وغيرها من سيوف مُصْلتة، وكان ذلك في وقت الضحوة الكبرى.

وكنت أنا في هذا اليوم جالسًا بمكان بالصليبة أعاين هذا الأمر وأشاهده عيانًا، وقد قعد الناس من باب السلسلة إلى قريب الناصرية أفواجًا أفواجًا لرؤيته، وامتلأت الشوارع والحوانيت التي هي مظنّة اجتيازه، وكذا الدُور المطِلّة على ذلك من الناس كما هي عادة العامة والغوغاء في مثل ذلك، ثم نزلوا بهم كما قلناه على تلك الهيئة، فشقّوا الرُميلة ثم الصليبة.

ومن نوادر ما وقع في هذا اليوم من الأمور البشعة الشنيعة المستَقْبَحة بأن يقع منها لآحاد الناس، فضلًا عن الملوك أن شخصًا من الركبدارية يسمّى قاسمًا كان من قدماء الركبدارية الغلمان في ذلك الزمان، وهو موجود إلى الآن بعصرنا هذا في مكان انتدب في هذا الوقت لما رأى المؤيّد وقد شُقّ به الصليبة على الهيئة التي ذكرناها، وبَدر من بين الناس في ذلك الملأ العام، وصاح بأعلى صوته المستقبح الجهوري، وتكلّم بكلماتٍ نعوذ باللَّه من التفوّه بها، قبيحة، مهولة، فظيعة (١)، شنيعة، مستبشعة إلى الغاية والنهاية يستقبَح سماعها فضلًا عن التلفّظ بها، وبقي يصيح بها ويغوّش، وقد ملأت تلك الكلمات الموصوفة بتلك الصفات مسامعَ المؤيَّد ومَن حضَر، حتى ذُكر عن المؤيَّد بأخرة أنه قال: ما تألّمت مما كنت فيه مثل ما تألّمت من كلام ذلك السفيه، ولم يحمد أحد (٢) هذا السفيه على ما صدر منه، حتى بلغ ذلك الظاهر خُشقدم فحنق من ذلك وغضب، وأراد أن يوقع بهذا السفيه فعلًا لكونه تجرّأ على مثل هذا الملك، فلم يجده لأنه استحسّ بذلك فاختفى من يومه ذلك، ثم زاد خوفه فخرج من القاهرة موسّعًا منها، ولم يزل مشتّتًا مدّة مطوّلة حتى حضر بعد ذلك. وهو إنسان من مساوئ الدهر شكلًا وفعلًا، أحوَل، أقرم، يختشي من شرّه من لم يعرفه، فما بال الذي عرفه لسفهه وعدم حيائه، وعُدّت هذه الفعلة من أعظم الفعلات وندارتها فما علمت ما سبب فعل هذا الصرف هذه الفعلة. ولقد سألته عن ذلك بعد ذلك، فذكر لى أنْ لك لحنقه من المؤيَّد المذكور لقضية جرت عليه منه، وما علمت صحة ما قاله، واللَّه أعلم. وعلى تقدير صحة ذلك فأيّ نسبة بينهما حتى يقع منه مثل ذلك، لا بورك فيه.


(١) في الأصل: "فضيعة".
(٢) في الأصل: "أحدا".

<<  <  ج: ص:  >  >>