للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

طلع من له عادة مظنّة رؤية الهلال عساه يراه بمنارها من جامعها الأعظم، وحضر الغالب من أحداث أهل البلد، فأخذوا في الطلوع للمنار. وكانت العادة بالبلد في رؤية الهلال الاجتماع بالجامع، ثم صعود من له عادة برؤيته ليخبر القاضي ومن له النظر في ذلك إذا رؤي ويثبت الشهر. ولما صعِد من له عادة تبعَهم الأحداث وهم يزدحمون على باب المنار للطلوع شيئاً فشيئًا حتى ضاق أعالي المنار عمّن صعِد، وتكاثروا في درجه بحيث ملأوا الدرج من باب المنار لأعلاه، والكثير أيضاً مقتحم على باب المنار للطلوع، وكل من (١) حضر يأخذ في الطلوع، وكثر الازدحام جدّاً ولا لمخلص فوق المنار، ولا مكان يَسَع وحصْر. واتفق أن الشهر ما رؤي، ففرح غالب من كان على المنار، وبدروا بالهبوط منها، وعارضهم الصاعدون بقوّة عزْم الصعود، وأولئك بقوّة عزْم الهبوط، لا أولئك يرعوون فيقفون أو يرجعون، ولا هؤلاء عن الازدحام والاقتحام عن الصعود يكفّون، أو من حيث جاؤوا (٢) يعودون. فعارضت سرعة حركة الهابطين مع سرعة حركة الصاعدين، وحصل بينهما تزاحم عظيم، فما تنبّهوا إلّا وقد مات منهم بالزحام لبعضهم البعض جمعٌ وافر من الأحداث، ولا سيما الصغار، فانْوَهَجُوا وزاد توهّمهم، وضاقت أنفاسهم وانْعَصَر بعضهم بالبعض في قوائم المنار ودَرَجه حتى هلك غالبهم، وكان بينهم مقتله عظيمة بغير قتال، وفيها غمرة وفي البصائر والأحوال. ولما انجلى ذلك شاع بالبلد موت الأطفال والأولاد بالمنار، فانزعج غالب أهلها، لا سيما من له ولد، وكأنه قد أطلق في هذه البلد النار، وكثُر هرج الناس واضطرابهم وحركتهم (٣). وكان قد جنّ الظلام وهجم الليل، فهرع الناس لا سيما من له ولد، وامتلأ (٤) الجامع بالخلائق من أهل البلد، وخرجن (٥) النساء متهتّكاً على الأولاد، وكثُر الزحام بالجامع المذكور، فكان وقتاً مهولاً، ثم أخذوا في إخراج الموتى، الواحد بعد الواحد، وقد دعوا ورضوا وهلّلوا، وخرج الحَدَث من بطونهم، بل وأمعاء الكثير منهم من أدبارهم، وأوقدت الشموع، وبقي من له ولد يفتّش عليه بين القتلى ليعرفه فيحمله إلى داره، ولا زالوا على ذلك ليلتهم، ثم أصبحوا في تجهيزهم ودفنهم. وكانت ليلة مهولة عندهم ويوماً مهولاً إلى الغاية من نوادر الليالي والأيام وغرائبها وعجائبها.

ولقد تعجبت أنا من ذلك لما قدِمنا طرابلس، وسمعت بهذه الكائنة الغريبة


(١) في الأصل: "وكلمن".
(٢) في الأصل: "جاوا".
(٣) في الأصل: "حركتم".
(٤) في الأصل: "وامتلاء".
(٥) الصواب: "وخرجت".

<<  <  ج: ص:  >  >>