للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يأخذون منه الكثير من ذلك، ويعوّضونه أغنامًا ومالًا على مهلهم، فكانوا يراعونه، لذلك شُهر وذُكر بهذه الواسطة. وبلغ الظاهر خُشقَدم بسَعة ماله، فسعى لأخذه، فاحتال عليه بأنْ ولّاه نظر الدولة، وتزيّا بزِيّ الكتبة مع كونه عَرِيًّا، أمّيًّا، لا يقرأ ولا يكتب، وركب الفَرَس بالفَرْجيّة، واتخذ الخُفَّ والمِهمَاز، فشُقّ ذلك على كثيرٍ من الناس، كون الزّفُوري (١) الدنيء الأصل يُرفع قدْره إلى هذا المحلّ، فباشر نظر الدولة مدّة، وما كفاه ذلك حتى ترقّى إلى الوزارة، فوُلّيها عن المجد بن البَقَري (٢) لما نُقل إلى الأستادّارية، بعد اختفاء الزين يحيى ابن (٣) كاتب حُلوان الأستادّار، على ما تقدّم ذلك في محلّه، وأُلبس خلعة الوزارة، ونزل إلى داره في موكبٍ جليل، وهو أول زَفُوريّ وُلّي الوزارة فيما نعلم، وعُدّت ولايته من قبائح أفعال الظاهر خُشَقدم، لرفعه مثل هذا الخسيس الوضيع إلى مثل هذا المنصب السامي الموضع، وإن كان قد بُهدل من أوائل هذا القرن، أعني الثامن، لكنْ بهدلة بحيث تصل إلى هذا الحدّ في القُبح والشناعة وقلّة الحياء والمروءة، فلا.

ولقد عمّت المصيبة بعد البَبَائي هذا بولاية من هو أخسّ منه وأدوَن وضاعة، فلا حول ولا قوة إلّا بالله.

ولما ولي البَبَائي هذا الوزارة باشرها بظلم وعسف وعنف وجبروت، (مع) (٤) قلّة أدب وحياء مع الأكابر والأعيان، ولا يَكثُر ذلك عليه، فإنه ما خالط الأكياس، ولا رأى الرؤساء والناس، ولا عرف المقامات، ولا تقرّب من شيء من ذلك حتى كان غاية أدبه كأعلى (٥) إساءة ريّس من الرؤساء، بل لا أرضى بذلك. كل ذلك مع تخليطه، وكثرة تخبيطه، وقُبح سيرته، وعدم صدق لهجته، بخلاف ما كان عليه أولًا في صدق اللهجة، فمقته الناس غاية المَقْت، وكثر الدعاء عليه وأبغضه حتى من لم يكن له عليه وطأة ولا له به معرفة، لأن القدرة غيورة تحرّك القلوب لبغض الظالم. وهجاه الشعراء بأهاجي كثيرة مشهورة، حتى بالغ بعضهم في هجائه، فإنه هجي بسببه الهجو لهجْوه بالهجو. وآل به الأمر أن أخذه الله تعالى أخذ عزيزٍ مقتدر بأن أغرقه في النيل.


(١) الزفوري: الذي يعمل في الزفارة من الطبيخ.
(٢) بإزاء هذه الكلمة كتبت حاشية بعكس الصفحة من أسفل إلى أعلى، وهي في نحو عشر كلمات غير واضحة.
(٣) في الأصل: "بن".
(٤) مكرّرة في الأصل.
(٥) في الأصل: "كأعلا".

<<  <  ج: ص:  >  >>