الظاهرية جقمق، وحج أميرًا على الركب الأول غير ما مرة، وعُيّن مرة في الرسالة لابن عثمان صاحب الروم، فقام بأعباء تلك الرسالة أتمّ قيامٍ، ونهض بما بُعث إليه أكمل نهوض، وكان سفيرًا حسنًا. وبُعث قبل ذلك رسولًا إلى جهان شاه أيضًا، وهو حينئذٍ تاجر المماليك، وهي الوظيفة التي تسمَّى بمعلَّم المعلّمين وكبير الدلَّالين. وكان قرّره فيها الظاهر جقمق، وبقيت بيده مدّة وعُرف بها. ودام قانم هذا على الإمرة عشرة إلى سلطنة الأشرف إينال، فأمّره طبلخاناة، ثم صيّره مرة من مقدَّمين (١) الألوف بعد موت خير بك الأجرود المؤيَّدي، الماضي ذِكره، ثم صُيّر رأس نوبة النُوَب في أول دولة المؤيَّد أحمد، عِوَضًا عن قَرقماس الجَلَب، لما نُقل إلى إمرة مجلس عِوضًا عن جَرِباش، لما نُقل إلى إمرة سلاح، بعد نقل خُشقدم من ناصر الدين منها إلى الأتابكية، عِوضًا عن المؤيد نفسه لما تسلطن بعد موت والده. ودام على الرأس نوبته الكبرى حتى تسلطن خُشداشه الظاهر خُشقَدم، فنقله إلى إمرة مجلس، عِوضًا عن قرقماس الجلب أيضًا، لما نُقل إلى إمرة سلاح، عِوضًا عن جَرِباش كُرْد، لما نُقل إلى الأتابكية بعد سلطنة خُشقدم المذكور.
ومن يوم تسلطن الظاهر خُشقدم أخذ أمر قانَم في العظمة، وضخُم جدًّا، ونالته السعادة زيادة عمّا كانت قبل ذلك، ودام على إمرة مجلس في أكثر مدّة الظاهر خُشقَدم، إلى أن ولّاه الأتابكية، عِوضًا عن جرِباش كُرْد، لما أخرج بطّالًا إلى ثغر دمياط، فضخُم جدًّا وعظُم إلى الغاية، حتى تحدّث الناس بوثوبه على الأمر لِما رأوا من عظمته، وأظنّه ما كان يفعل ذلك في حياة خُشقدم، والله أعلم، لكونه كان هو السبب في عظمته، وإنما ذلك من حَدْس الناس في مثل ذلك لمن تناله العظَمَة. نعم لو عاش بعده لكان هو السلطان مع إرادة الله تعالى ذلك. ودام على الأتابكية في عظمته وأُبّهته وشهامته ووفور حُرمته، ونفاذ كلمته إلى أن بَغَتَه الأجل.
وكان ملكًا جليلًا، شهمًا، عاقلًا، أدوبًا، سيوسًا، عارفًا، ذا وقار وحشمة، ومعرفة، وحُسن سمت، وتؤدة ووجاهة في الدول، مع صدق وفطنة، وشجاعة، وإقدام، ومحبّة للعلم، والعلماء، والمَيْل لهم، والتكلّم معهم، وسؤاله إياهم عمّا أشكل عليه، مع انتمائه إلى الطلب. وكان مع ما كان عليه من العظمة والجبروت كثير التأدّب مع أهل العلم، وكان من أعظم محبّي شيخنا العلّامة الكافِيَجي، وممّن يُجلّه ويعظّمه غاية التعظيم ويعضده في كثيرٍ من الأمور، لا سيما في أيام مشاركته إيّاه في النظر على الخانقاه الشيخونية.