للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

في السياق، لكنه في قيد الحياة على أواخر الأنفاس. وكان لما طلع الأتابك يَلَبَاي إلى باب السلسلة هو والأمراء أرجف بالقاهرة بموت خشقدم، ولما نزلوا عُلم بقاؤه في قيد الحياة، ولكن أكثر الناس يشيعون موته قائلين بأنه مات، وجُلْبانه يُخفون ذلك حتى انتظم الأمر ولم يكن كذلك. هكذا أخبرني من حضره عند الموت.

وكانت وفاته بقاعة البيسرية. ولما تسامع جُلبانه بموته ماجت القلعة موجة ثانية، وزادت الحركة بها والاضطراب، وثارت الجُلبان وهم يصرخون وطال عويلهم وأكثرهم ملبّسين (١) وبأيديهم السيوف المُصْلَتَة. وحين بلغ الأمراء خبر موته بدروا بالطلوع إلى القلعة شيئًا فشيئًا، فأول ما طلع الأتابك يَلباي، وهي الطلعة التي تسلطن في يومها في آخر النهار كما سنذكره، وطلع وهو في هيئة الحزانى، مظهرًا الأسف والكاَبة على فقدان خشداشيه السلطان، باكيًا، عليه ملّوطة بياض غير مُزرّر لطوقها، وعلى رأسه عمامة جلوسه، فبدر إليه الجُلبان ومشوا معه ثم عادوا وقد امتلأت القلعة من باب الدرج إلى باب الحريم بالجُلبان.

ثم إنني شاهدت في أثناء طلوع الأمراء شيئًا فشيئًا قايتباي وهو أحد مقدّمين (٢) الألوف إذ ذاك وقد طلع، ولما دخل من باب القلعة قامت الجُلْبان على ساقٍ، ومشوا إلى جهته بالسيوف المُصْلَتَة، واضطربوا حين رؤيته اضطرابًا كبيرًا، حتى أنني خشيت عليه، ثم مشوا معه إلى أن شيّعوه إلى داخل وعادوا، فتوسّمت في ذلك اليوم فيه السلطنة واللَّه على ما أقول وكليل، فإنّني رأيت الأتابك حين طلوعه، وكذلك الأمراء واحدًا بعد واحد، فلم يتحرّك الجُلبان لطلوعهم كحركتهم لطلوع قايتباي، ولا القرب منها، حتى تعجّبت من ذلك، فكأن قائلًا يقول لهم: هذا هو السلطان. هكذا توسّمت في ذلك اليوم.

ولما تكامل الأمراء أخذوا في تجهيز السلطان من غير أن يُبْدوا شيئًا ولا يعيدوه في قضية يَلَباي وسلطنته، ولا حصلت مبايعته، وإنّما اشتغلوا بتجهيز السلطان والسلطنة شاغرة، فجُهّز وغُسّل وأُخرج في نعشه، وصُلّي عليه بباب القلّة، ثم حُمل نعشه وعليه مرقّعة الفقراء، ونزل معه جماعة قليلة، أظنّهم لا يبلغون العشرين نفسًا من الأمراء والخاصكية، ونزل معه من المباشرين الشرف ابن (٣) كاتب غريب، وساروا بجنازته إلى جهة الصحراء ليُدفن بتربته التي أنشأها هناك، وقد قعد الناس لرؤيته، وازدحم العوام وكثير من الناس حول نعشه، حتى وصلوا به إلى التربة، وقد فُتحت الفسقية التي بالقبّة المُعَدَّة لدفنه بمدرسة تربته


(١) في الأصل: "ملبّسون".
(٢) الصواب: "أحد مقدّمي الألوف".
(٣) في الأصل: "بن".

<<  <  ج: ص:  >  >>