للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيكون ذلك مما يمدح به يلباي هذا، لا مما يُذمّ به، فإنه من التدبير ومن الحِيَل النافعة في محلّها، لا من قبيل العجز الحقيقي، وهو ظاهر جدًّا. وأمّا ذهول عقل يلباي، فلم يُسمع به، ولقد رأيته مرراً قريبًا من سلطنته وكالَمْتُه، فلم يظهر لي، بل ولا لغيري، في عقله قصور ولا ذُهول، ولا ضعف بصره ولا سمعه، بل كان عاقلاً وافر العقل والمعرفة، مدبّرًا، سميعاً، بصيراً، ولا خلل في شيء من ذلك غيره، ولولا الخوف من الإطناب لذكرت نقض كل فصل فصل مما قاله الجمال هذا على حِدَة، لكن لا غرض لنا إلّا في التكلم بالإنصاف، لا سيما في مقام توريخ ما يضاف إلى الناس، سيما الملوك والسلاطين، على أن كل أحد، حتى هذا المتكلّم بما تكلّم قد اعترف بأن يلباي هذا كان محجوراً عليه في الأمور، وأنه لم يستبدّ بها، فكيف يُنسب إليه التقصير مع ذلك؟

ولما صودر يلباي هذا على ما أُخذ منه من المال، أمر بإخراجه إلى السجن في هذه الليلة، فأنزل بها احتشاماً له ومعه وتأدّباً، فلم يُنزَل نهاراً إجلالاً له، ومع ذلك فتسامع الناس بإنزاله وكانت ليلة مقمرة، حيث كانت ليلة عاشر الشهر، فهرع الكثير من الناس لرؤيته لما رأوه من الحركة والاضطراب بالخيول والسلاح، فجلسوا من باب السلسلة إلى أواخر الصليبة، بل وإلى قناطر السباع، وركب جماعة كبيرة من الجند ومعهم الرماح وآلات السلاح والسيوف المُصْلَتَة، ثم أنزل به على فرس بعمامة جلوسه، وعليه ثياب بيض، وتقدّمه قانبك المحمودي أمير سلاح وهو راكب، ومعه أوجاقيّ ردْفاً له بخنجرين في يديه اليمنى واليسرى، وذلك بخلاف العادة، لأنها جرت بأن يكون بيد الأوجاقي خنجر واحد، بقرب خاصرة الغريم، وهو حاضنه بيده الأخرى. وأما يلباي فكان بمفرده من غير رديف، كما هي عادة السلاطين حين إنزالهم في مثل هذه الكائنة، واجتيز به علينا.

وكنت أنا في ذلك الوقت جالساً بمكان برأس سُويقة عبد المنعم وشاهدته وقانبك أمامه، وساروا بهما إلى ساحل النيل، فأنزلوا الظاهر يلباي بموكب أُعِدّ له، وقد جعل مسفّره قانصوه اليحياوي المولّى نيابة الثغر، فتسلّمه وانحدر به لوقته ذلك، ووصل إلى الإسكندرية فسُجن بها، ولم يزل بالسجن إلى أن مات به بعد ذلك في ليلة الإثنين مستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين الآتية، ونذكر وفاته في تراجمها ووَفَيَاتها إن شاء اللَّه تعالى.

وكان ملكاً ضخمًا، شجاعاً، متديّناً، له وجاهة في الدول، دام في السعادة مدّة من بدايته إلى يوم سلطنته، لم ير المكروه قط، إلّا في قضية إخراجه لسكندرية مع دَولات باي، وكان متموّلاً ذا ثروة، وكان لا يتكلّف في مركبه وملبسه وجماعته

<<  <  ج: ص:  >  >>