للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحنكات حديثاً، ذا رأي وتدبير، ولو لم يكن من رأيه إلّا ما دبّره وتواطأ (١) مع يشبُك الفقيه وطائفة المؤيَّديّة عليه، على ما عرفته أولاً عدم مساعدة المقادير له، وإلّا فكان ذلك غاية في التدبير.

وكان خيّراً، ديّناً، سليم الباطن والفطرة، حسن العقيدة والاعتقاد، عارفاً بطرائق الملوك رأى الناس، ومارس الأموال. (كان خُشداشه الظاهر خُشقدم يركن للأكراد، ويستشيره في أموره، ويأخذ رأيه) (٢)، وما لُقّب بالمجنون إلّا لشجاعته وإقدامه وقوله الحق، وعدم مداهنته، وإلّا فلو كان مجنونًا بالمعنى الذي قاله هذا المؤرّخ (٣) لما جاءت بيعته بالسلطنة، لعلم أن المراد من تلقيبه بذلك، لأجل نوع حدّة كانت في مزاجه وجرأة وإقدام، حتى شُبّه بالمجنون، بل ما قاله هذا المؤرّخ يؤدّي إلى الطعن في أهل الحلّ والعقد من الأئمة والقضاة والعلماء، بل والأمراء والجند، حيث ولّوا عليهم مجنوناً، وبالجملة فذا كلام لا على طريقة الإنصاف بل الإنصاف خلافه.

على أن يلباي هذا كان هو السبب الأعظم في إخراج الوالد من القاهرة بممالأة عليه عند الظاهر خُشقَدم، لأمرٍ ما أوجب له ذلك، بعد صحبةٍ أكيدة كانت بينهما، ومع ذلك فالحق لا يضيع، وهو أولى أن يُتّبع، والإنصاف لا يترك بين أهله لأجل الغرض، لا سيما من هو بصدد كتب تواريخ الناس، بأنه ينبغي له أن يترك غرضه في مثل ذلك بمعزل، وجُلّ غرض ابن (٤) تغري بردي في ذم يلباي، كونه قطع نفقة أولاد الناس في حين سلطنته، فكان الجمال هذا من جملة من قُطعت نفقته، على أنّ قطع النفقة لم يكن مضافاً ليلباي، لا سيما على ما اعترف به الجمال هذا، وزعمه بأنه لم يكن ليلباي هذا من الأمر شيء، بل كان قطعها مضافاً إلى المؤيَّد في المملكة، وهو خيربك إذ ذاك.

ثم نقل الجمال هذا حكاية ذكرها عن بَرسْباي قَرَا، لما أنْ بعث إليه بإخراجه من المخبأة، والتّوجّه به إلى البحرة كما قلناه. وتلك الحكاية إذ صحّت فما أراد بها يلباي إلّا إظهار الاستكانة، لا سيما في مثل هذا المقام الذي الغالب فيه التلف والإهلاك لا الإبقاء، لأنه القياس الغالب في مثل سلطنة يلباي هذا، لا سيما وله حزب وطائفة وشوكة، وهو من الأكابر ومن الجراكسة، فأخذ حين غلبة الظنّ بإتلافه في شيء ربّما يكون سببًا لبقاء مهجة، فما تكلّم به مما أعابه به الجمال هذا، إنما هو من الخدم وغايته التدبير، فظهر هذا للناقد البصير، ولمن له معرفة ببعض التدابير.

فكم من عائبٍ قولاً صحيحاً … وآفَتُه من الفهم السقيم


(١) في الأصل: "وتواطي".
(٢) ما بين القوسين عن الهامش.
(٣) يقصد ابن تغري بردي.
(٤) في الأصل: "بن".

<<  <  ج: ص:  >  >>