طرابلس بالقضية، فأتوا إلى القائد مستنكرين، وكان القاضي قد بلغه ارتداد المملوك عن الإسلام، فقام بما يوجبه الشرع، وقال للقائد إنّ الشرط لا يُلزِم أداءَ المبلغ، لأنّ المملوك ارتدّ عن الإسلام، وخدع صاحبه، واحتال عليه، وذهب بماله، فوعده القائد بالإفراج عنه غدًا، وفي الليل أحضر المؤلّف من سجنه، وتوعّده وخوَّفه، وأخذ منه مالًا بالمكر والخديعة، وحلّفه أن لا يذكر شيئا مما حدث لأحدٍ من أهل طرابلس. وقد جرى كل ذلك دون أن يدري بما فعله القاضي وأعيان المدينة، كما لم يعرف بارتداد المملوك. وفي صباح اليوم التالي أُطلق سراحه، وعندما وقف على حقائق الأمور ندم على دفع المال للقائد، وسكت وهو على مَضَضٍ كبير، وزاد من أسفه أنّ القائد داهن كبير التجار بطرابلس "عبد الحميد العوّادي"، فانقلب عليه ولم يُراع صحبته، ووقف إلى جانب القائد الظالم اتقاءً لشرّه، وكان عند المؤلّف صاحب من ظرفاء سمرقند يُدعى "خليل العجمي" وقد أحاط بكل ما جرى، فتأثّر من موقف كبير التجار المتنكّر لصديقه، وكان له إلمام بالنظم، فنظم أبياتًا هجاه فيها، وكأنّها على لسان المؤلّف، وأنشدها له، فأثبت المؤلّف ما يذكره منها وهو قوله:
بني العوّادي أقوام لِئام … حلالُ الشرع عندهُم حرام
لهم فِتَن تشاعُ بكل نادٍ … عليهم لعنة المولى دوام
شويشو مشهور … إذا حلو شواش
لا عَلَمُوا منشور … بسوق الأوباش
فلا عجبًا إذا افتخروا بعرضي … فإنّ العرض عندهم مُباح
وإنْ قالوا: قليل الدين قلنا: … فطيم لا يريد سوى النكاح
وهي طويلة.
وبعد أيام ورد قارب من أسارى رودس الأروام المسلمين هاربين منها، وهم زيادة على العشرة، فأخبروا بالقضيّة على جليّتها، وأنّ ذلك المملوك باقٍ على نصرانيّته، وهو حكى لهم ما فعل بسيّده، وأنه باع الجواري بخمسمائة دينار، وأنّه لما دخل البنادقة بالشواني إلى رودس احتال على صاحب المركب الفرنجي الذي معه، أن سيّده أمره أن ينزل بالجواري برودس، ومنها يسافر إلى بلاد الروم فيبيعهنّ، لأنّ السعر هناك أغلى من ساحل الشام، وكان معه في المركب يهوديّ اتفق معه أن يشتريهنّ منه، ودفع له كراء المركب. وانخدع الفرنجي صاحب المركب بكلامه. وشاعت هذه الحكاية بطرابلس، فلما تحقّق المؤلّف منها ذهب إلى القائد، وطلب منه أن يعيد إليه ما أخذه منه، وخوّفه بأنّه سيعود إلى تونس،