للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأخذ عن جماعة منهم: العلّامة أبو عبد الله محمد بن القوري عالم فاس ومفتيها، بل عالم المغرب في وقته، وكان يحضر دروسه بعد ولايته السلطنة أيضًا، وما ترك ملازمته، وكان معه كآحاد الطلبة، ويجلس إلى حذائه على يمينه. وكان القوري يغضّ منه بأخرة بعد ولايته الملك، لا سيما في أواخر أمره ولا يأنس به ولا ينبسط إليه، وخصوصًا بعد تسليطه اليهود، ولبعض مظالم ظهرت له منه، حتى صار كثيرًا ما يعرض عنه في درسه بين الملأ من الطلبة، ويودّ أن لا يحضره، لكنّه لم يمكنه منْعه لسلطنته وولايته للأمر، حتى إنه يومًا مدّ رِجله بمكان جلوسه مُظهرًا بأنها مؤفنة، عساه يكفّ عن حضوره مجلسه، فلما حضر ورأى رِجل الشيخ ممدودة في مكانٍ يجلس هو، فغالطه واجتاز إلى الجهة الأخرى، فجلس بها على يسار الشيخ، ثم لما تمّ الدرس خلا بالشيخ وقال له: لِمَ فعلتَ ذلك؟ أما حسّيت بسطوة الملك، يمازجه ويمازحه بذلك. فقال له في جوابه: إن السواد الأعظم معي، فتركه السلطان وما انقطع مع ذلك عن درسه لمحبّته في الفضائل.

وكان في أوّليّته كثير العدل والإنصاف، ويُذكر عنه من الورع والديانة ما لا مزيد عليه.

ذكر لي من أثق به عنه أنه اشتهى يومًا طعام اللِّفْت، فأُحضر إليه، فحين أراد أكْلَه وجد لِفْتَه مُرًّا، فسأل حوائج كاتبه: من أين شراه؟ فذكر له إنسانًا عرَّفَه بشخصه. ثم اتفق بعد مدّة أن أُحضر إليه بائع اللِّفْت مع خصمٍ يدّعي على بائع اللِّفْت هذا، فامتنع من سماع الدعوى عليه، وبعث بهما للقاضي بعد أن قال للقاضي: احكُم بينهما، فإنّني أكلت منه لِفْتًا مُرًّا، وأنا أخشى من الحَيْف عليه لحنْقي منه فيما تقدّم. وعُدّ ذلك من ديانة عبد الحق هذا، ويُذكر عنه كثير (١) من المحاسن.

وكان لما مات شيخًا، أبيض اللحية، لعلّه مات في عشر السبعين.

ولما ورد إليه الخبر بالكائنة بفاس، وطلب حيلة، قدِم فاس مُجِدًّا في سيره، وترك الكثير من عساكره وراءه، حتى وصل لفاس في ثلاثة. أنفار، ولم يظنّ أنه يفعل معه المكروه، وكان في ذلك أجله على ما تقدّم. ومَلَك بعده فاس السيد الشريف محمد بن عِمران، على ما أسلفنا كيفية ذلك. ولم يزل الشرّ بتلك المملكة مدّة مطوّلة، ولعلّه باقٍ إلى يومنا هذا. وجرت فِتَن وفترات كبيرة سنتين، إلى فيما يأتي إن شاء الله تعالى.


(١) في الأصل: "كثيرًا".

<<  <  ج: ص:  >  >>