للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أتابكاً في دولة الظاهر يلباي حتى خلع يلباي كما بيّنّاه لك، وتسلطن هذا في هذا اليوم، وكان منه من التصرّفات ما سنذكره، ثم كان له بعد ذلك أيضًا ما سنذكره.

وكان ملكاً لائقًا، فقيهاً، فاضلًا، حفظ القرآن العظيم، ثم "منظومة النَسَفي"، وكان يستحضر الكثير من المسائل الفقهية الفرعية، وغير ذلك أيضًا، وله مشاركة جيدة في كثير من التاريخ والأدبيّات والشعر، وله جودة مذاكرة، وحُسن محاضرة، وعنده ذكاء وفهم وفطنة وتيقّظ، وعقل تام، وجودة رأي، وتدبير صائب، وسياسة وكياسة، وحُسن سمت، وتؤدة وسكون، وفصاحة لسان، عارفاً بلغة الترك والعرب، عفيف اللسان، ذا حشمة وأدب، ومحبّة لأهل العلم، مع معرفة تامّة بكثير من صنايع اليد وأعمالها، منها مهارته في عمل القوس العربية بيده، وتجويد السهام وعملها، أستاذاً في ذلك، رأساً في رمي النشّاب، لعلّه انتهت إليه الرياسة في ذلك في زمنه، ومع ذلك فكان أمّة في لعب الرمح وتعليمه وأندابه وتعاليمه، عارفاً بسائر فنون الفروسية من الضرب بالسيف، رأسًا أيضًا في معرفة الدّبّوس (١)، وتخرّج به في ذلك جماعة من الأعيان من طائفة الأتراك، وكان له خبرة ومعرفة بفنّ اللجام والمهماز والضرب به بسائر أنواعه. وكان كثير التجمّل في ملابسه ومراكبه ومأكله ومشاربه وسائر شؤونه (٢) وأحواله، يقترح في ذلك أشياء غريبة، وله مفردات انفرد بها تُنسب إليه إلى يومنا هذا.

هذا جملة ما له من المحاسن.

وأمّا غير ذلك فيما يُنسب إليه من المساوئ، فكان يُتّهم بالميل الكلّي إلى محبّة العبيد الحبش، ويُذكر عنه في ذلك أشياء يطول ذكرها، اللَّه أعلم بصحّتها، ولولا أشيع ذلك عنه إشاعة فاحشة، كان يمكننا (٣) عدم ذكر ذلك والسكوت عنه، لكنه فشا (٤) عنه ذلك، فإن تركنا ذِكره نُسبنا إلى الفرقة والبُغضة، وليس ذلك من شأن من يتصدّى لبيان التاريخ، ليتّزن بما يقوله الزمان وسِيَر الناس وأحوالهم، وكان يقوم أيضًا في أغراض نفسه القيام التام، مع بعض مكر وحِيَل وخديعة، وإثارة فِتَن، وتكبُّر على الناس، وشمم زائد جدًّا، لكنه زال عنه ذلك حين سلطنته، ولعلَّه كما قيل لأجل التمكّن، واللَّه أعلم.


(١) الدّبّوس: آلة من آلات الحرب تشبه الإبرة، كانت تُصنع من عود طوله نحو قدمين من الخشب الغليظ في أحد طرفيه رأس من حديد قطرها ثلاث بوصات تقريباً. (تكملة المعاجم العربية، لدوزي ٤/ ٢٨).
(٢) في الأصل: "شونه".
(٣) في الأصل: "كان يمكنها".
(٤) في الأصل: "فشى".

<<  <  ج: ص:  >  >>