والاستخراج، ثم تعليمهم أديانهم، ثم تعليمهم الأنداب والآداب والتعاليم، وسائر أنواع الفروسية بسائر فنونها، حتى إنه غالبًا يحضر ملاعيبهم بنفسه، وينظر في تعاليمهم، بل ربّما علّم البعض بنفسه في بعض الأحيان، وهذا من نوادره التي لم تقع لأحدٍ من السلاطين أيضًا قبله.
ومن غريب نوادره أيضًا أحكامه لمماليكه، وضبطه إيّاهم، مع كثرة عددهم وعُددهم، وشهامتهم الزائدة في فروسيتهم، وذلك في طول مدّته هذه، وإن كانوا قد تغيّروا في هذه الأيام، وأخذوا في الاستظهار، وبدأوا الناس ببعض الأذى، ومع ذلك فليس هم كغيرهم من مماليك من مضى من السلاطين. وقرّب مماليكه جدًّا، وأقطعهم الأقاطيع الهائلة، وقدّم الكثير منهم، حتى صار غالب الملوك الأكابر بمصر، بل وبجميع المملكة، منهم كالأميراخور الكبير، والدوادار الكبير، وغالب نوّاب البلاد الشامية، مثل نائب طرابلس، نائب حماة، نائب صفد، نائب غزّة، نائب الكرَك، نائب مَلطْية، نائب قلعة الروم، نائب دوركي، نائب سِيس، نائب طَرَسُوس، نائب عَنْتاب، نائب القدس، إلى غير ذلك من النيابات، ونائب الإسكندرية بهذه البلاد، ثم نيابات القلاع والأتابكيّات والحجّاب، ومقدَّمين (١) الألوف، والطبْلَخَاناة، والعشرينات، والعشرات بتلك البلاد، وعدّة وظائف وإمريّات بالقاهرة وخارج الأعمال، كالدوادارية الثانية، وشدّ الشراب خاناه، واستادارية الصُحبة، وتجارة المماليك، وكشف الوجه القِبْلي، بل والبحري، وعدّة ولايات وأعمال وتصرّفات بهذه البلاد، وتلك البلاد الشمالية، ولم يقع ذلك لغيره من ملوك مصر على هذه الوتيرة.
ومن نوادره تطلُّعه واستشرافه لأخبار أمرائه وجُنده، بل وسائر رعيّته، ووقوفه على الكثير من أخبارهم وأحوالهم الجزئية، وما هم فيه وعليه، فضلًا عن أخبارهم الكلّية، بل ومعرفة أحوال بعض ممّن لا يؤبه إليه، فيعمل بمقتضى آرائه فيما يصل إليه من أحوالهم، وتقديم من يستحق التقدّم، ولو لم يرشّح لذلك، وتأخير من يستحق التقديم، ولو ترشّح للتقديم، فله فضيلة إيصال كلّ إلى ما يستحقّه إذا وقف على حقيقة ما هو الشخص عليه.
ومن نوادره تكلّمه في أشياء لا يليق بمثله التكلّم فيها، مع إظهاره بأن ذلك من تمام المصالح واليقظة والمعرفة، وهذا هو قصده من ذلك، وإن كان ذلك على زعم الغير عن مصلحة.