للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بذلك بديوان الجند السلطاني، ويُقطعه الإقطاع الهائل، ويُؤويه منزلًا بتلك السريّة، ونفذت كلمته، وتوفّرت حرمته، وبعُد صيته، وشُهر وذُكر، وعظُم وضخُم، وصار يتدبّر المملكة للظاهر جقمق. وكان الظاهر ضنيناً (١) به جدًّا، وألقى إليه مقاليد الكثير من الأمور، وحكمه في الجمهور، واعتنى بشأنه جدًا، ونوّه به، بل ربّما دعا له في الملأ (٢) العام من العسكر، وقرأ له الفاتحة في بعض الأحيان بسراره، وتردّد الظاهر إليه بنفسه غير ما مرة لعيادته وغير ذلك، ومَلَك البلاد والعباد، ووصل إلى رتبة لم يصل إليها من كان قبله من الأستادّارية، لا الجمال البيري، ولا محمود بن أصفر عينه، وناهيك بجلالة قدرهما وما وصلا إليه، بل ولا وصل غيرهما إلى ما وصل هو إليه. ولم يكن لغيره معه كلام، ولا على يده يد.

وأنشأ الكثير من المدارس والجوامع الهائلة والرُبُط والأسبلة، يقال إن ذلك زيادة على الستة عشر، ولعلّ ذلك لم يقع لملك من السلاطين، فضلاً عن الأستادّارية -وكان جُلّ غرضه بذلك أن يكون شرْكًا وأُحبولة للرزق والأوقاف عليها، فإنه كان يترقّب ما آل به الأمر إليه بأخرة من المصادرات والبلاء والرزيّات والفِتن والمِحَن، وكان في ظنّه أنه لا يُفطن بقصده ويبقى له ذلك، فجاء الأمر بعكس ما قصده وأراده، وعورض في ذلك وقوصص، وحُلّت غالب أوقافه، وأبيعت الكثير من أملاكه، بل والكتب التي أوقفها، فما ظنَّك بغير ذلك! لا سيما في سلطنة الظاهر خُشقدم. ولم يزل في طول مدّة الظاهر في الصعود والارتفاع وهو مدبّر المملكة وعن رأيه تصدر الأشياء الكثيرة فيها، وقُصد للمهمّات من سائر الجهات، وأُتحف بالهدايا والمراسلات، كل ذلك مع وجود الجمال ابن (٣) كاتب جَكَم وتمكّنه وعظمته، وكان السلطان منقادًا إليه ومعوّلًا في كثير من الأمور عليه، حتى زالت الدولة الظاهرية، وولي السلطنة المنصور عثمان بن الظاهر المذكور، فكان على يده أفول نجم سعادته، وأعان هو على ذلك بمساعدة نفسه عليها بقلّة لباقة وعدم لياقة، فعارض السلطان في قضية النفقة على ما تقدّم في محلّه من سلطنة المنصور، وظن أن أمره يروج في معارضته، وأن السلطان كأبيه في قبضته، بل ظن الأخروية والأولية، فانعكست عليه القضية، واحتدّ منه المنصور لا سيما في أول الدولة وحين الاحتياج، فلم ير بُدّاً من قبضه عليه، حتى لو قدّر أنه يكون من أعظم خواصّه ومن يلوذ به ومقرّبيه لاضطر إلى فعله ما فعله به، لقطع طمع الطامعين في زجر من عساه يقتفي آثاره. ولما قبض عليه صادره على جملة من


(١) في الأصل: "طنينا".
(٢) في الأصل: "الملاء".
(٣) في الأصل: "بن".

<<  <  ج: ص:  >  >>