للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

من قال: سلطنوا جَرباش أمير سلاح، فلم يحبّ جانِبك هذه المقالة، لكنه لم يدافع عنها، بل أخذ فى أسباب نقضها بما يَسَع عقل قائلها بمكره وشيطنته. وكان القائل لهذا من الأشرفية، فأخذ جانِبَك فى تسليم قول القائل توطئة لعدم القول به بما يكون كالمنع، بأن قال: شكرته فى أهلية الأمير جرباش للسلطنة، لكن أنتم تعلمون وتتحقّقون أنّنا متى سلطنّاه ثم بدا لنا صرفه إذا جاء الأمير جانَم لا يتمكن من ذلك، فدخل الدخيل على الأشرفية من هنا وظنّوا أنه مشدود معهم على سلطنة جانَم، ثم أخذ يبيّن جانِبَك الوجه لما قاله من عدم تمكّنهم بعد ذلك من صرف جرباش إذا تسلطن، فقال وذلك لوجوهٍ منها أنه رجل عظيم من أجلّ الملوك وقدمائهم، ومن الجنس، وصهر خُشداشنا بُرْدُبك البجمقدار، وصهر خُشداشكم خيربك من حديد وغيره، وإن مجيء جانَم قد قارب، ولو جاء لما احتجنا لغيره، وتكلّم بكلمات أُخَر على هذا المنوال لوهِم بأن جميع ما قاله إنما هو لأجل جانَم، بل صرّح به كما قلناه، كل ذلك لئلّا تنفر قلوب الطائفة الأشرفية عنه وغرضه، والتفاته إلى غير ما هو قائله لأن ما فى القلوب فى القلوب على ما عرفناك بذلك فى تأميره وأنت على الأشرفية، فشابهم السمع، وإن بدا لهم بعضٌ من الرأي، فخُدعوا وحالوا عنه وغفلوا عن العاقبة ووقفوا عند الرأي فى الوقت الحاضر من غير أن يتفكروا معه فى رأي ما سيعقبه من الزمان، بل يتلوّنون فى الحال لما يلقى إليهم لسذاجتهم وسلامة بواطنهم غالبًا من غير تأمّل وتدبير فيما يقول جانِبك حتى ولا بالوهم فيما أظنّ، فضلًا عن التفكر فى مقاصده بذلك، بل كالحمير الموكفة يساقون لِما أريد منهم بالخديعة والمكر وهم لا يشعرون. {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: ٤٣]، فقد عرفت ما آل إليه أمر جانِبك هذا على أن غرضه فى نفس الأمر إنما هو التوطئة لنفسه لما كان فى مخيّلته، فلهذا طلب سلطنة خُشقدم لكونه استلاشه على ما قلناه، بل ولعلّ خُشقدم تحقّق منه هذا فى هذا اليوم، فضلًا عن بُعده، لكنه لم يتمكن بعد سلطنته من أخذه إلّا بعد حين لذلك (١) الكمين، وبقي فى سلطنته محيّرًا منه وباطنه فى شغل وفكرٍ فى أمره مع إظهاره له خلاف ذلك بحيث لم يتوهّم جانِبك منه الأذى لغلبة مكر خُشقدم وخداعه على مكر جانِبك، فإن خُشقدم كان من دُهاة العالم وصناديد بني آدم فى أشياء منها هذه الجزئية حتى كان هو الغالب بعد ذلك كما سيجيء ذلك فى محلّه ونعرفه عن أصله.

ولما فرغ -أعني جانِبك- من كلامه فى جانب جرِباش بما تكلم أُعجِب الحاضرون بذلك كيف وقد أثبت لهم المقدّمات المقبولة عندهم التي يسلّمونها


(١) فى الأصل: "لذالك".

<<  <  ج: ص:  >  >>