وفي الوعظ. وكان صوفيًّا على طريقة أهل السُنّة والجماعة، إمامًا في ذلك، بل مسلِّكًا، وله كرامات ذُكرت عنه، وأفتى ودرّس في حالة صِغره، ثم قُصد للأخْذ عنه من أقاصي الدنيا، وقُصد للكتابة على الفتاوى، وازدحمت عليه الورّاد في ذلك، وبعُد صيته. وكان جيّد الكتابة على الفُتْيا مع غاية الوجازة والاختصار والاقتصار على المقصود من غير أن يتمحّل عوض المستفتي، بل يكتب الجواب بنظر دقيق وجودة تحقيق. ووُلّي عدّة من الوظائف السنيّة الدينية، كمشيخة المؤيديّة، وقضاء الحنفية، وولّي القضاء في سنة إحدى وأربعين كالمُكْرَه عليه، وكان لولايته إيّاه يومًا مشهودًا، وباشره بحُرمة وافرة، وشهامة وعَظَمة ومهابة. ثم تحدّث الظاهر جقمق في أن يكون هو رأس الميمنة، وأن يكون خطيب الخطباء وما إلى قضاة القضاة الشافعية إليه، فتلطّف بجقمق في ذلك وامتنع. وكان وجيهًا في الدول، معظَّمًا عند الملوك، قائمًا في الحقّ، وإليه انتهت رياسة الحنفية بمصر، بل بالدنيا، ودُعي بسلطان الفقهاء وملك العلماء، وقصده الأعيان من طلبة سائر المذاهب للأخذ عنه، وافتخروا به، وصنّف وألّف عدّة من التصانيف والتواليف الجيّدة المفيدة، فمن ذلك:"تكملة شرح الهداية" للسروجي في خمس مجلّدات، ولم يكمله أيضًا، كتب فيه من حيث قطع السروجي من الإيمان، وانتهى إلى السِيَر، فكتب على الإيمان مجلَّدين، وعلى الحدود مثلهما، ومن السِيَر مجلَّد. وله "المنظومة النُعمانية" وهي كبيرة جدًا، ولم يكملها. وله عدّة رسائل وغيرها. وله في الفقه اختيارات جيّدة، منها "القَصْر والجمع في السَفر" حيث المشقّة خاصّة. بل ذلك مع الدين المتين والصلاح، بل والولاية، والعفّة والأمانة، والتواضع، ولِين الجانب، وحُسن السمت والملتَقَى، والبشْر والبشاشة، وعُلُوّ الهمّة، وكرم النفْس، والتؤدة، والنفع التام، والشفقة علىَ خلق اللَّه تعالى. وله النظْم الحسن المقبول.
فمنه ما أنشدنيه في شوال سنة خمس وستين وثمانمائة بقاعة سكنه بالمؤيَّدية، والوالد يسمع معي. وكنت أنشدت ذلك عنه قبل ذلك بطرابلس، ثم أنشدنيه لنفسه بعد حضور الوالد إلى القاهرة في التاريخ المذكور:
هي الدنيا الدنيّةُ فاحذروها … فليس لها على أحدٍ ثبات
فأوّلها وأوسطها انقلابٌ … على كدَر وآخرها شتات
وغايتها المماتُ و (حب هذا)(١) … إذا ما لم يكن إلّا الممات