للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خمسمائة دينار منها، وفرّق الباقي على من حضر معه وأعانه. ثم أمر بالعزيز إلى الحريم، ودخل السلطان إلى زوجته نعل ابنة البارزي فأسلمه لها، وأمرها أن تجعله في المخدع المُعَدّ لنوم السلطان، وأن تتولّى هي ما يحتاج إليه بيدها، وحرّضها على ذلك، كل ذلك بعد أن أظهر الظاهر قبل ظفره به أنه ظفر به وأنه آتٍ.

واتفق أن مات طواشيّ (١) من الخدّام بالقلعة، فجُهّز وأُخرج على أنه العزيز، على ما بلغني. ودام العزيز بالدّور السلطانية إلى أن أخرج إلى سجن ثغر الإسكندرية، فبقي بها بالبرج مدّة سنين، إلى أن أعياه ذلك، وهو مع ذلك متجلّد صابر، واشتغل بمطالعة الكتب والنظر في القرآن، ثم تعانى كتب الأدب حتى حفظ الكثير من الشعر، واجتهد في الفضائل، وحصّل الكمالات النفسانية، مع المواظبة على نوافل الطاعات والعبادات، وهو صابر متجلّد، حتى مضت الدولة الظاهرية الجقمقية والأشرفية الإينالية، وولي الظاهر خُشقَدَم بعث بإطلاقه هو والمنصور عثمان، وكان قد حُمل إلى الإسكندرية على ما تقدّم ذلك. وكان العزيز هذا يُحسن إليه، وما أظهر الشماتة به، ولا أخبره بفعل أبيه معه، لسيادته وعلوّ همّته، وسكن بمكانٍ من الثغر إلى أن بَغَتَه الأجل بها.

وكنت لما دخلت الإسكندرية رأيته بها، ورأيت من حشمه وأدبه وفضله وعلمه وحلمه وجودة قريحته وحُسن سمته، وعقله وتؤدته، ورياسته وعراقته وأصالته، وأثالته ونبالته ونجابته، وكرمه وسخائه، وكبير مروءته، وعُلُوّ همّته، إلى غير ذلك من محاسنه الجمّة ما لا أقدر أن أعبّر عنه، ولو ذكرت شيئاً من ذلك على جهة التفصيل لطال المجال واتّسع المقال، حتى كان عنده من الثياب المخيطة التي تليق بسائر أجناس الناس الشيء الكثير يتسبّب بها من حضر إليه وقصده، أو نحو ذلك. فَما ظنُّك بغير ذلك؟!

وكان وجيهاً في الثغر، وله ذِكر وصِيت حسن، وكان يذاكر بالكثير من الشِعر يحفظه بحيث خرج في حفظه عن الحدّ.

ويُحكى عنه فيه العجب، حتى سمعت إنساناً يذكر لي عنه أنه كان إذا أنشده إنسان مثلاً بيتاً من المواليا أخذ في تصوّره من المواليا ما شاء اللَّه أن يقدر منها، حتى قال لي: لو دام ثلاثة أيام ينشدنا من هذا النوع (٢) فقط لما فرغ ما في حفظه من ذلك، فما ظنُّك بغير ذلك؟

٢٥٣ • ولا يكثُر عليه ما ذكرناه من محاسنه، لأن والده كان أضخم مَن ملك من الجراكسة، وأجَلّ ملوكهم في الحقيقة، فإنه كان ملكاً ضخماً، شهماً،


(١) في الأصل: "طواشيا".
(٢) في الأصل: "النوم".

<<  <  ج: ص:  >  >>