للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه وهي -الإرادة القدرية- فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية، ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا: فيكون قد رضيه وأمر به، قال الله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بالشرائع من الأمر والنهي {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه. {إِنْ تَتَّبِعُونَ} في هذا {إِلَّا الظَّنَّ} وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} أي تكذبون وتفترون بإبطال شريعته، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (١) على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلا منه وإحسانا، ويحرم من يشاء، لأن المتفضل له أن يتفضل، له أن لا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة.

وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرداته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضا بعقابها، كما أنه سبحانه قد يقدر على العبد أمراضا تعقبه آلاما، فالمرض بقدره والألم بقدره، فإذا قال العبد: قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض قد تقدمت الإرداة بالمرض فلا أتألم، وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي، أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب، وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه، بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضا، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} (٢) وأما آدم فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)} (٣).

فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم -عليه السلام- أو نحوه. ومن أراد شقاوته اعتل بعلة إبليس أو نحوها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار، فقال له العقلاء: أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول: من أين كانت؟ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار، فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها، هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير، ولا يردها بالاستغفار والمعاذير. بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله، بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها. والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته، ولا تترك معصيته إلا بعصمته. (٤)

- وقال: إن الناس -في باب خلق الرب وأمره ولم فعل ذلك- على


(١) الأنعام الآية (١٤٩).
(٢) الحجر الآية (٣٩).
(٣) الأعراف الآية (٢٣).
(٤) مجموع الفتاوى (٨/ ١٩٧ - ٢٠٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>