ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية -ولا اختيار- كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مقسور ومجبور.
ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه وحققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة فاعلين.
ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد، فقالوا: ليس في الكون معصية ألبتة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد. كما قيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم. وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه.
وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على