المؤلف، وقد جرَّبت هذا شخصيًا في مراجعة بعض الأبحاث التي ذكرها، فوجدت الأصل الذي نقل عنه مطابقًا للنقل.
والروايات التي ينقلها الغازي عن المؤرخين قد تحمل بعض الاختلاف فينقلها بنصِّها ولا يتدخل فيها بتصحيح أو تعليق، ولا يدلي برأيه الخاص في الاختلاف إن وجد، فهو ينقل ما كتبه المؤرخون وبنسبه إليهم، وهو بهذا يشبه شيخ المؤرخين الإمام الطبري في طريقته في رواية الروايات وبعض هذه الروايات التي ينقلها الغازي مكذوبة، وبعضها ملفَّق لا يقبله عقل ولكنَّ الغازي ينقلها بنصها ولا يبدي رأيه فيها، ولا يعترض على ما هو منكر وظاهر البطلان.
وأسوق على ذلك رواية ذكرها في حديثه عن الماء في مكة وعن عيون مكة وآبارها.
فقد نقل الغازي عن كتاب "آكام المرجان في أحكام الجان" رواية منسوبة إلى الشيخ نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني امام الحنابلة بمكة، والذي كان يشرف على إجراء ماء العين إلى مكة يقول فيها:
أنَّ رجلًا كان يعمل في الحفر فخرج مصروعًا يتكلم ويقول: نحن سكان هذه الأرض ولا والله ما فيها مسلم غيري، ولا يحل لكم أن تظلمونا، وقد أرسلوني إليكم يقولون: لا ندعكم تمرُّون بهذا الماء في أرضنا حتى تقدموا لنا حقنا، قلت وما حقكم … ؟ قال: تأخذون ثَوْرًا فتزينونه بأعظم زينه، وتلبسونه، وتزفونه من داخل مكة حتى تنتهوا به إلى هنا، فاذبحوه، ثم اطرحوا لنا دمه وأطرافه ورأسه في بئر عبد الصمد وشأنكم بباقيه، وإلا فلا ندع الماء يجري إلى هذه الأرض، والرواية طويلة ظاهرة التلفيق وينتهي من منامه بأن الشيخ نجم الدين إمام الحنابلة عرض الأمر على كبراء أهل مكة فاشتروا ثورًا وزَينوه وألبسوه، وخرجوا يزفونه إلى الموضع الذي حدَّده رسول الجان لهم، وقاموا بذبح الثور، وألقوا رأسه وأطرافه ودمه في البئر التي سمَّاها، فما أن طرحوا رأس الثور وأطرافه ودمه حتى جاء رجل إلى الشيخ نجم الدين وأشار إليه بالحفر في موضع عيَّنه له، فلما تمَّ ذلك كان الماء يموج في ذلك الموضع، وإذا طريق منقور في الجبل يمرُّ تحته الفارس فلما أصلح هذا الطريق ونُظف جرى الماء إليه يسمع هديره، ولم يكن إلا أربعة أيام، فإذا الماء بمكة وصار حول البئر موردًا. انتهى.
هذه الرواية منسوبة إلى الشيخ شمس الدين الحنبلي، ويعرِّفُه ناقل الرواية بأنه ابن القيم الجوزية، ويصف من روى له الرواية بأنه من أصدق الناس وأعظمهم ديانة وأمانة، وأهل البلد كله يشهدون له بالديانة والصدق وشاهدوا هذه الواقعة بعيونهم.
ويقول الشيخ الفاسي: بئر عبد الصمد المذكورة في هذه الحكاية لا تعرف الآن، والعين المشار إليها عين بازان ويغلب على ظني أن ذلك جرى فيها لما عمَّرها أصحاب جوبان، والله أعلم.