للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه الحكاية أوردها كذلك تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام منقولة عن كتاب "آكام المرجان في أحكام الجان" والرواية هذه وقعت في سنة ست وعشرين وسبعمائة التي أجرى الأمير جوبان نائب السلطنة بالعراقين الماء إلى مكة (١).

ولقد عجبت من ذكر الغازي هذه القصة وهي ظاهرة الخرافة والتلفيق، وعجبت أكثر من رواية الفاسي لها فهذا العمل إن صحَّ فهو يدل على أن الخرافة في مكة في ذلك الزمان حلَّتْ محل العقل، وأن الشعوذة استولت على عقول الناس فتوارت العقيدة الصحيحة لتفسح المجال لأوهام الدجالين والمشعوذين، وإلا فكيف تقبل عقول الناس حكاية كهذه الحكاية التي يَزفُّ فيها المكيون ثورًا يزيِّنُونه ويلبسونه أحسن الحلل، ويخرجون به من مكة في موكب بالطبل والزمر، حتى يوصلونه إلى منى فيذبحونه، ويلقون رأسه وأطرافه ودمه في بئر استجابة لطلب الجن الذين يتحكمون في الماء فيجرونه أو يمنعونه، ونجد هذه الرواية منسوبة إلى نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني أمام الحنابلة المعروف بصدقه وأمانته ويتحسر في نهايتها شمس الدين الحنبلي الذي هو ابن القيم الجوزية على أيام الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب الذي يفرق منه الشيطان، فيجري ماء النيل دون أن يذبح له عصفور.

ترى هل نسي الشيخ شمس الدين، والشيخ نجم الدين إمام الحنابلة، هل نسوا الآية القرآنية الكريمة في حرمة الذبح لغير الله تعالى.

حُرِّمَتْ عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به .. إلى آخر الآية الكريمة؟ وأين علماء مكة من هذا الحدث البالغ الخطورة؟

هذه الحادثة لم يقبلها عقلي، ولم أوردها لأنها كانت ظاهرة التلفيق والكذب وقد أيَّد ذلك عندي حادثة أخرى رواها الشيخ الغازي منقولة عن كتاب بلوغ القرى للعلامة عمر بن فهد، في سنة ٨٩٠، وهي تشبه الحادثة الأولى بنصها ورد فيها اسم المحتسب سنقر الجمالي ووظيفته شاد العماير السلطانية، وقد خرج الموكب من بيت المحتسب بالثور المزين بالملابس والحلل، والطبل والزمر إلى بركة ماجن في أسفل مكة، وسار الموكب بعد ذلك إلى أعلى مكة بسوق الليل وإلى بئر المظلمة التي يبدو أنها كانت في أعلى مكة بسوق الليل، وقد زُفَّ هذا الموكب الخرافي لأن مجرى عين عرفة ودبولها عميت على القائمين عليها فأرادوا بتقديم هذا الثور أن يستعينوا على معرفتها، ولكنَّ ابن فهد الذي روى هذه الحادثة لم يذكر ما أسفرت عنه من نتائج كما وقع بالنسبة للثور السابق (٢).

إن تكرار هذه الحادثة يدلُّ على أنها من الروايات المكذوبة التي يتداولها الناس في العهود التي تشيع فيها الخرافات والجهل، ويستولى فيها المشعوذون على عقول العامة وأشباههم، ولكن الغريب في الأمر أن هذه الخرفات يسجلها مؤرخون أمثال تقي الدين الفاسي، وعمر بن فهد، وهما من علماء مكة ومؤرخيها.


(١) انظر ذلك في شفاء الغرام ج ١ ص ٣٤٧/ ٣٥٠.
(٢) انظر إفادة الأنام مجلد ٢ ص ٣٠٥/ ٣٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>