للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي كتابي ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز تحدثت عن الماء في جدة وعن أنواعه وما يجلب منه من العيون أو الآبار أو يؤخذ من البحر فليرجع إليه من شاء الاستزادة (١).

[ابنة السلطان سليمان تنفق على إجراء الماء إلى مكة وعرفات]

كان الماء شحيحًا في مكة وعرفة ومنى، وتاريخ العيون وإجراؤها في هذه الأماكن ثم توالي توقفها تاريخ طويل ليس هنا محل بسطه، ولكنما استوقف نظري فيما أورده الشيخ الغازي من هذا التاريخ ما قامت به الأميرة خانم سلطان ابنة السلطان سليمان القانوني التي تقدمت إلى والدها السلطان سليمان في أوائل سنة تسعمائة وتسع وستين، أن يأذن لها في الإنفاق على إيصال الماء إلى عرفات، وكانت عين عرفات قد انقطعت، وأصبح الحجاج يعانون كثيرًا من فقدان الماء وغلاء ثمنه، وكان السلاطين العثمانيون منذ أن صار لهم حكم الحجاز يوالون إصلاح العيون في مكة وعرفة، وكان قاضي مكة عبد الباقي بن علي المغربي، والأمير خير الدين سنجقدار جدة، قد رفعوا إلى السلطان سليمان تقريرًا عن عين عرفات التي انقطعت من سنوات طويلة، وكان في تقديرهم أن إصلاح هذه العين وإيصالها إلى مكة يقضي على مشكلة الماء في هذه الأماكن المقدسة، وقدروا المال اللازم للمشروع بثلاثين ألف دينار فلما علمت الأميرة خانم سلطان بفحوى هذا التقرير التمست من والدها السلطان سليمان أن يأذن لها بالإنفاق على هذا المشروع تشبَّهًا بالسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد التي أجرت العين المسماة باسمها إلى مكة، وكانت هذه العين قد انقطعت عن البلد الأمين بتعاقب القرون.

أذن السلطان لابنته الأميرة بالقيام بهذا العمل الجليل، واختار اسناد هذه المهمة الجليلة إلى الأمير الكبير إبراهيم باشا، دفتردار مصر، ودفعت له الأميرة خمسين ألف دينار ذهبًا بزيادة عشرين ألف دينار مما قدره قاضي مكة لإصلاحها.

سافر إبراهيم باشا بحرًا من مصر، ووصل إلى مكة لثمانٍ بقين من ذي القعدة سنة تسع وستين وستمائة، وبعد مقابلة أمير مكة الشريف حسن بن أبي نمي، وشيخ الإسلام بمكة القاضي حسين الحسني، والاستماع إلى آرائهما، باشر العمل فبدأ أولًا بتنظيف بعض الآبار التي يستقي منها الناس، ثم توجَّه إلى عرفات، وقام بفحص مجاري العين ومشاربها وتتبع الدبول والقنوات التي يجري فيها الماء، وأقام بوادي نعمان، وكان قد أحضر معه للقيام بأعمال الحفر والتنظيف أربعمائة مملوك، واستخدم البنائين، والحجارين، والقطاعين والنجارين والعمال الذين بلغ تعدادهم ألف رجل للعمل في المشروع، وكان قد أحضر معه من مصر كلَّما ظنَّ أنه لازم للعمل من مكاتل ومساحي، ومجاريف، وحديد، وفولاذ، ونحاس، ورصاص، وقسَّم العمال إلى فرق متعددة أوكل لكل فرقة مساحة من الأرض


(١) ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز ص ١٥٢/ ١٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>