لما ظهرت بوادر هذه الأزمة اضطرت المدرسة أن تطلع الشيخ أحمد القاري رحمه الله على الظروف السيئة التي تعرضت لها، والتى اضطرت معها إلى أن تستغني عن خدماته لأنها لا تستطيع الاستمرار في صرف المرتب الضخم الذى يتقاضاه في هذه الظروف، ولم يكن من أستاذنا رحمه الله إلا أنه أصرَّ على البقاء في المدرسة والعمل فيها بدون مرتب، لم يقبل منهم أن يدفعوا له ما يدفع لزملائه الآخرين، ولم يقل أنه يقنع ببعض الراتب، وإنما أصر على أن يعمل بلا مقابل على الإطلاق وهكذا كان.
ولم يكن الشيخ أحمد غنيا ولا صاحب تجارة أو عمل، وإنما كان رجل علم وهب حياته للعلم وسلخ ما مضى من حياته طالب علم ومدرس علم ثم تدرج في وظائف المحاكم الشرعية حتى وصل إلى القضاء بين الناس ولقد كان صاحب أسرة ولكنه كان عظيم الثقة بالله تعالى، وأنه لن يضيع أجر من أحسن عملا، لهذا آثر إلبقاء بين طلابه في مدرسة الفلاح بجدة يقوم بأشرف عمل في هذه الحياة ابتغاء مرضاة الله تعالى حتى يجعل الله له وللمدرسة فرجا ومخرجا. ولقد طلب الشيخ أحمد القارى بعد ذلك للعمل مرة أخرى في مجلس الشورى ثم في سلك القضاء في مكة المكرمة وانتقل إليها كما قرأنا في صدر هذه الترجمة. هذا ولقد كان أستاذنا محبًا لتلاميذه حفيا بأمرهم.
حدث أني تركت المدرسة بعد نهاية العطلة المدرسية وحين بداية العام الجديد، إذ رأى أهلي أن من الخير لهم أن اعمل في إحدى الوظائف بدلا من الاستمرار في الدراسة، وكان المتخرجون من الفلاح يعملون في الوظائف الكتابية الحكومية أو الأهلية، ولم ير أهلي ما يوجب استمرارى عامين آخرين للانتقال من سلك الدارسين إلى سلك الموظفين، فالحقوني بمالية جدة بوظيفة ملازم، والملازم هو الموظف الذى يلازم الدائرة التي يلتحق بها ليتمرن على العمل الوظيفى إلى أن تخلو وظيفة فيعين بها بعد أن يكون قد اكتسب من الخبرة ما يؤهله لذلك، وبعد أن يكون قد اتيح لرؤسائه أن يطلعوا على مبلغ ما يحسنه من الكتابة أو الحساب.
وقضيت ما يقرب من شهر في وظيفة ملازم بمالية جدة وكان رئيسها المرحوم السيد