للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَقُّ الِاعْتِرَاضِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

[بَابُ الرَّضَاعِ]

(قَالَ:) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَذَكَرَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: «يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالْوِلَادَةِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالنَّسَبِ لِحَقِيقَةِ الْبَعْضِيَّةِ أَوْ شُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ، وَفِي الرَّضَاعِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِاللَّبَنِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْآدَمِيَّةِ فِي إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ كَمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْأُمَّهَاتِ تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ وَهُوَ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَبَنُهَا بِوَطْئِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَهُ بِالنَّسَبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَلِكَ بِالرَّضَاعِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ فَقَالَ: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: ٢٣] فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ لَبَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ الْحُرْمَةَ بِالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَا تَثْبُتُ بِحَقِيقَةِ فِعْلِ الْإِرْضَاعِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَزَلَ اللَّبَنُ فِي ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتُ فِي جَانِبِهِ بِإِرْضَاعِ زَوْجَتِهِ أَوْلَى، وَحُجَّتُنَا ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَسَمِعْتُ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقُلْتُ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مَا أَرَاهُ إلَّا فُلَانًا - عَمَّا لِحَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعِ - فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعِ حَيًّا أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ.؟ فَقَالَ: نَعَمْ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَّا فِي ثِيَابٍ فَضْلٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقُلْتُ: إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ لَا الرَّجُلُ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: لِيَلِجْ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ» وَالْعَمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ لَبَنِ الْفَحْلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا اللَّبَنِ فِعْلُ الْوَاطِئِ، فَالْحُرْمَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْوِلَادَةِ، فَأَمَّا مَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُرْمَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>