[بَابُ الْهِبَةِ فِي النِّكَاحِ]
(قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّكَاحُ بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ صُحِّحَ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظَةِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: ٥٠] فَقَدْ جَعَلَ النِّكَاحَ بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ خَالِصًا لِلرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، وَكَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي أُمِرْنَا بِالِاسْتِحْلَالِ بِهَا: الْإِنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ، وَفِي قَوْلِهِ: «اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ» إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ مَعْقُودٍ لِمَقْصُودِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا انْعَقَدَ بِلَفْظَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا هَذَا الْعَقْدُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا عَقْدٌ خَاصٌّ فَلَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا شُرِعَتْ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهَا كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} [آل عمران: ١٨] لَمْ يَقُمْ لَفْظٌ آخَرُ مَقَامَ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَحْلِفُ؛ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّزْوِيجَ هُوَ التَّعْلِيقُ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الضَّمُّ، وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ مَعْنَى التَّلْفِيقِ وَالضَّمِّ، فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا اللَّفْظُ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ، وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْفُرْقَةُ تَقَعُ بِهِ؟ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَهَبْتُ نَفْسَكِ مِنْكِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُهُودٍ، وَعِنْدَ ذِكْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ الشُّهُودُ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمَا أَرَادَا النِّكَاحَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: ٥٠]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَاهُ: إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْهِبَةَ جَوَابًا لِلِاسْتِنْكَاحِ، وَالِاسْتِنْكَاحُ طَلَبُ النِّكَاحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {خَالِصَةً لَك} [الأحزاب: ٥٠] فَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَرْأَةُ يَعْنِي أَنَّهَا خَالِصَةٌ لَك فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَك حَتَّى يَكُونَ شَرِيكَك فِي الْفِرَاشِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: ٥٣]، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ هِبَةٌ خَالِصَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إنْ وَهَبَتْ} [الأحزاب: ٥٠] يَقْتَضِي هِبَةً، وَالْكِنَايَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هِبَةً خَالِصَةً لَا يَلْزَمُك مَهْرٌ لَهَا، وَهَذَا لَك دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute