للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الذَّنْبُ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ جَزَاءُ جِنَايَتِهِ، وَجِنَايَتُهُ فِي الْجَرْحِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ، وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ الْمَالُ دُونَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، فَكَانَ حَوْلَانُ، الْحَوْلِ تَأْجِيلًا فِيهِ، وَالتَّأْجِيلُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، فَكَيْفَ يَنْفِي تَقَرُّرَ السَّبَبِ؟

(قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ عَنْ ثُلُثِهِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ مِنْ الْعِتْقِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، فَقَدْ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَكَانَ هَذَا عِتْقًا بِعِوَضٍ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَالٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِمَالٍ لَا يَتَمَحَّضُ قُرْبَةً، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِتْقِ وَقَعَ غَيْرَ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْزِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[بَابُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ]

(قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ أَرَقًا وَفِي رِوَايَةٍ (١) بَرَقًا: إنِّي أَحْلِفُ عَلَى قَوْمٍ أَنْ لَا أُعْطِيَهُمْ، ثُمَّ يَبْدُوَ لِي فَأُعْطِيَهُمْ، فَإِذَا أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَشَفِّعَةُ: أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ {: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٤]، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُجَازِفُ فِي الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إذَا رَأَى الْحِنْثَ خَيْرًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُحَمِّلَنَا، ثُمَّ رَجَعَ قَوْمٌ عِنْدَهُ بِخَمْسِ ذَوْدٍ، وَقَالُوا: حَمَلَنَا عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ. قَالَ: إنِّي أَحْلِفُ ثُمَّ أَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَأَتَحَلَّلُ يَمِينِي، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ أَوَانَ التَّكْفِيرِ مَا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>