فِي رَدِّ مَا بَقِيَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُعَاوَضَةً بِالتَّقَابُضِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَيَرُدّ سُدُس الْهِبَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَقَدْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
[بَابُ هِبَةِ الْمَرِيضِ]
(قَالَ: وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ، وَلَا صَدَقَتُهُ إلَّا مَقْبُوضَةً فَإِذَا قُبِضَتْ: جَازَتْ)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ - قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ - وَلَا تَبْطُلُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَجَعَلَ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ فِي الْحُكْمِ كَالثَّابِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، وَرِثَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَلِأَجْلِهِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا بِالْقَبْضِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعَقْدِ تَبَرُّعٍ؛ فَيَكُونُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمُهُ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَضْعَفُ مِنْ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ. وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ - كَكَفَالَتِهِ، فَإِعْتَاقَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا خِلَافَةٌ - ثُمَّ الْمِلْكُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا، وَالْخِلَافَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، فَإِذَا لَمْ يُتَّفَقْ قَبْلَ الْمَوْتِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ، إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِجَازَةُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَلَا يَقُولُ: الطَّلَاقُ يَصِيرُ كَالْمُضَافِ، وَلَكِنْ تُقَامُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَقَامَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ أَنَّهَا لِحَقِّهَا فِي مَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا، وَأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ تَعَلَّقَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ بِمَرَضِهِ، فَلِإِبْقَاءِ حَقِّهِمْ جَعَلْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ.
قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا فَقَبَضَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا: جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهَا وَرَدَّ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْوَرَثَةِ. (وَكَذَلِكَ) سَائِرُ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ، إلَّا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ فَلَا إشْكَال، وَأَمَّا فِيمَا يُقْسَمُ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْكُلّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ بَطَلَ مِلْكُهُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَكَانَ هَذَا شُيُوعًا طَارِيًا فِيمَا بَقِيَ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ؛ فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَحَقّ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَوْ جَازَ فِي الْبَاقِي: كَانَ شَائِعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ.
قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً، فَكَاتِبُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا، فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثًا قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ، وَلَا تُرَدُّ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute