للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ]

(قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ ثُمَّ صَلَّى لَمْ يَحْنَثْ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُتَكَلِّمٌ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَيْسَ إلَّا تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَتَصْحِيحُ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَفْهُومًا مِنْ الْعِبَادِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ حَانِثًا؟ فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا تَرْكَ الْقِرَاءَةِ وَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: فُلَانٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ: حُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْأَذْكَارُ، وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَكَانَ كَلَامًا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَوْ تَكَلَّمَ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ فَهُوَ حَانِثٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَنَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَلِّمًا فُلَانًا بِإِيقَاعِ صَوْتِهِ فِي أُذُنِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَقَدْ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي إذْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ عَنْهُ وَاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِهِ فَيَحْنَثُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى هَاذِيًا وَالثَّانِيَ يُسَمَّى مُنَادِيًا لَهُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ نَادَاهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَيْقَظَهُ حَنِثَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ بِنِدَائِهِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي أُذُنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِمَانِعٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَلَا يَكُونُ حَانِثًا، وَإِذَا انْتَبَهَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ صَوْتَهُ فَيَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّائِمَ كَالْمُنْتَبِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ، بَيَانُهُ فِيمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عِنْدَ نَائِمٍ حَيًّا ثُمَّ لَمْ يُدْرِكْ ذَكَاتَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ.

وَإِنْ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ فِيهِمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلَامِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَوْمُ دُونَهُ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ إذَا قَصَدَ بِالْخِطَابِ غَيْرَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ

<<  <  ج: ص:  >  >>