فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُخَاطِبٌ لَهُمْ.
وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَّا لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ: كَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ أَتَانَا كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْمَى أَوْ أَشَارَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ كَلَامًا وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَأَلَنِي هَارُونُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ فَقُلْت: نَعَمْ إذَا كَانَ مِثْلُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ عَادَةً إنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا لِفُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ فَقَالَ: سَأَلَ هَارُونُ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ هَذَا وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ نَدِمَ وَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَذَكَرَ هِشَامٌ وَابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنُ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اللَّفْظَ مُرَاعًى وَلَفْظُهُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ لِيَفْهَمَ لَا يَكُونُ قِرَاءَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ؟
وَإِنْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ مَوْلَاك وَلَهُ مَوْلَيَانِ أَعْلَى وَأَسْفَلُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِأَيِّهِمَا كَلَّمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ جَدَّك وَلَهُ جَدَّانِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْمٌ مُشْتَرَكٌ وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْيِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّعْمِيمِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ ثُمَّ فَرَّ مِنْهُ الْغَرِيمُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمُفَارَقَةِ وَهُوَ مَا فَارَقَ غَرِيمَهُ إنَّمَا الْغَرِيمُ هُوَ الَّذِي فَارَقَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَابَرَهُ حَتَّى انْفَلَتَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا فِي وُسْعِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ.
(قَالَ): وَلَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَحَالَ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ وَأَبْرَأَهُ الطَّالِبُ مِنْهُ ثُمَّ فَارَقَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ غَايَةً وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَالِهِ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ حِينَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ بِالْحَوَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فَوْتَ الْغَايَةِ عِنْدَهُمَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ لَا إلَى حِنْثٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى يَأْذَنَ لِي فُلَانٌ فَإِنْ نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَرَجَعَ الطَّالِبُ إلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute