هَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَيَقُولُ: هُنَا الْحَجْرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى طَلَبِ أَحَدٍ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ.
[الْفَصْلُ الثَّانِي لَا يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ]
وَالْفَصْلُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعُرُوض، وَالْعَقَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا مُبَادَلَةَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ، فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِثَمَنِهِ لِحَدِيثِ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ، فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ، وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ»، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ، وَالدَّيْنُ، فَإِنْ أَوَّلُهُ هَمٌّ، وَآخِرُهُ حُزْنٌ، وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجُّ، فَادَّانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ، وَقَدْ دِينَ بِهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ فَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلْيَفْدِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ بَيْعَ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَالْأَصْلُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ نَابَ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهُ كَاَلَّذِي إذَا أَسْلَمَ عَبْدَهُ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِهَذَا وَالتَّعْيِينُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَاجِرُهُ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ إذَا وَجَبَ عَلَى امْرَأَةٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُزَوِّجُهَا لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ صَدَاقِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُحْبَسُ لِتُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩]، وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ.
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ». وَنَفْسُهُ لَا تَطِيبُ بِبَيْعِ الْقَاضِي مَالَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِهَذَا الظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ: بَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَجِهَةُ بَيْعِ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالِاسْتِيهَابِ، وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute