لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ، وَضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ»، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا حَبَسَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِيَسَارِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتَقِ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ وَمَعَ ذَلِكَ اشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَبْسِهِ حَتَّى بَاعَ بِنَفْسِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَدْيُونَ يُحْبَسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِي الْحَبْسِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَفِي اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى حَبْسِهِ فِي الدَّيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِهِ فِي دَيْنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ.
وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَالتَّسْرِيحُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ، فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ صُورَةً وَجِنْسٌ، وَاحِدٌ مَعْنَى، وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِحَبْسِ حَقِّهِ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً، وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا، فَلِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَيَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى قُلْنَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقَاضِي مُجْتَهِدٌ، فَجَعَلْنَا لَهُ وِلَايَةَ الِاجْتِهَادِ هُنَا فِي مُبَادَلَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْمَدْيُونِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالِ حَقِّهِ عَنْ عَيْنِ مِلْكِهِ، وَلِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لِغُرَمَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ، فَوْقَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي النُّقُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَنَقُولُ إنَّمَا بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ بِسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ، وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute