للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِابْتِدَاءِ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَجِّ وَالْآخَرُ بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَأْمُرَاهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِسَفَرٍ خَالِصٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلنَّفَقَةِ فِي مَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ أَمَرَاهُ بِالْجَمْعِ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَرَّحَ أَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ النُّسُكِ لَا خُلُوصُ السَّفَرِ لَهُ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ رَجُلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ

[اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ]

(قَالَ): رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مِنْ الْكَافِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ أَدَاؤُهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حَيْثُ رَقَى الْمَلْدُوغَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ» وَالرُّقْيَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ طَاعَةٌ، ثُمَّ جَوَّزَ أَخْذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْأَدَاءِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَتُهُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ عَلَيْهِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ وَقَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ إذَا عَمِلَ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا خَالَفَ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْإِمَامَةِ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الصَّلَاةِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْجِهَادِ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ يُؤَدِّي الْفَرْضَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرِّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ»، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ عُلِّمَ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْطَى قَوْسًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ النَّارِ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ»، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اتَّخَذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا»، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِعَمَلِ الطَّاعَةِ عَمَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ بِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ فَالْعَمَلُ هُنَاكَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَالْمُصَلِّي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُ أَجْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: ٩٠]

<<  <  ج: ص:  >  >>