لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِقَامَتِهِ، وَفِي هَذَا احْتِيَالٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ
(قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَّا سَأَلُوهُ إذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِحَقٍّ، وَلَا يَتَّصِلُ إلَى ذَلِكَ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إلَّا بِالسُّؤَالِ فَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ فِي رَأْيِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ إذَا كَانَ يُبْصِرُ وُجُوهَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَهُ.
وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَهُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَدْ يَسْبِقُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي حَادِثَةٍ لِإِنْسَانٍ وَيَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَإِنْ تَرَكَ رَأْيَهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ كَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، فَإِنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقَاوِيلِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ نَوْعُ اجْتِهَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَادِثَةٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ عِنْدَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ اجْتِهَادَ مِثْلِهِ، وَهُنَا أَيْضًا إذَا قَدَّمَ رَأْيَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ عَلَى رَأْيِ نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ نَوْعَ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فَكَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ]
(قَالَ)، وَإِذَا شَهِدَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا كُلُّ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا بِامْرَأَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَرَجَمَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ لَمْ يَضْمَنُوا، وَلَمْ يُحَدُّوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلِ الرُّجُوعِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاجِعُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَدُّونَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ مَا بَقِيَتْ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى زِنَاهُ، فَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْآخَرِينَ أَيْضًا فَعَلَى الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي الرُّبْعِ فَعَلَى الرَّاجِعِينَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جَمِيعًا وَيُحْدَوُنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحَدُّونَ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute