للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِلْكِ الْمَدْيُونِ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلِهَذَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَخِلَافَةُ الْوَارِثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَقِّهِ فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَفَاءٌ بِذَلِكَ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ دُيُونَ إسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيَقْضِي كُلَّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ، وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

[جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً]

وَإِنَّ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النُّصْرَةِ، وَهُوَ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَأَحَدٌ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ، أَوْ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْجَانِي لِعُذْرِ الْخَطَأِ، وَالْمُرْتَدُّ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ الْأَرْشُ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ مَا غَصَبَ وَأَتْلَفَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَذَلِكَ كُلُّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِعِصْمَةِ نَفْسِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْعِصْمَةُ بِرِدَّتِهِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ هَدَرًا.

مُسْلِمٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ كَانَتْ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ الْيَدِ فَقَطْ، وَإِنَّ أَسْلَمَ قَبْلَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ زَائِلَةً، فَحُكْمُ السِّرَايَةِ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ لَا يَعُودُ، وَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ، وَمَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ سَوَاءٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ ثَانِيًا فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ اللُّحُوقِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ لَحِقَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ بِالرِّدَّةِ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمُبْرَإِ عَنْ سِرَايَةِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ كَمَا لَوْ قُطِعَ يَدُ عَبْدٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ أَوْ بَاعَهُ صَارَ مُبْرِئًا عَنْ السِّرَايَةِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ، وَبَعْدَ مَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إعَادَةِ حَقِّهِ فِي السِّرَايَةِ فَكَانَ وُجُودُ إسْلَامِهِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ كَعَدَمِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ حَقُّهُ تَوَقَّفَ بِالرِّدَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>