فَإِنْ مَكَثَ عُرْيَانًا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إنْ سَالَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ، فَإِنْ أَلْقَى النَّجَسَ مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا مَرَّ، وَإِنْ أَدَّى رُكْنًا أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ.
[صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَرُبُعُ سَاقِهَا مَكْشُوفٌ]
قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَرُبُعُ سَاقِهَا مَكْشُوفٌ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ)، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُعِدْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُعِيدُ حَتَّى يَكُونَ النِّصْفُ مَكْشُوفًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: ٣١] وَالْمُرَادُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لَأَجْلِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَأْسُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ صَلَاةَ بَالِغَةٍ، فَإِنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي. ثُمَّ الْقَلِيلُ مِنْ الِانْكِشَافِ عَفْوٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ نَظِيرُ الْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَدَلِيلُنَا فِيهِ ضَرُورَةٌ وَبَلْوًى خُصُوصًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا الْخَلِقَ مِنْ الثِّيَابِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَؤُمُّ أَصْحَابِي يَعْنِي الصِّبْيَانَ عَلَى إزَارٍ مُتَخَرِّقٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ لِأُمِّي غَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكِ فَدَلَّ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الِانْكِشَافِ عَفْوٌ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ، فَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ ذَلِكَ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا قُوبِلَ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ يَكُونُ قَلِيلًا، وَإِذَا قُوبِلَ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ يَكُونُ كَثِيرًا، فَإِذَا كَانَ الْمَكْشُوفُ دُونَ النِّصْفِ فَهُوَ فِي مُقَابِلَةِ الْمَسْتُورِ قَلِيلٌ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَهُوَ فِي مُقَابِلَةِ الْمَسْتُورِ كَثِيرٌ، وَفِي النِّصْفِ سَوَاءٌ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فِي إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الِانْكِشَافَ الْكَثِيرَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ. وَفِي الْأُخْرَى اسْتَوَى الْجَانِبُ الْمُفْسِدُ وَالْمُجَوِّزُ فَيُغَلَّبُ الْمُفْسِدُ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا الْكَثِيرَ بِالرُّبُعِ، فَإِنَّ الرُّبْعَ يَحْكِي الْكَمَالَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْحَ بِرُبُعِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ بِجَمِيعِهِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ فُلَانًا، وَإِنَّمَا رَأَى أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي الرَّأْسِ كَذَلِكَ فِي الْبَطْنِ وَالشَّعْرِ وَالْفَخِذِ، فَأَمَّا فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِمَا بِالدِّرْهَمِ دُونَ الرُّبُعِ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ غَلِيظَةٌ فَتُقَاسَ بِالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إظْهَارُ مَعْنَى التَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّ الدُّبُرَ مُقَدَّرٌ بِالدِّرْهَمِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ إذَا انْكَشَفَ الدُّبُرُ يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الصَّلَاةُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمِ، فَإِنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute