وَفَاءً بِالدَّيْنِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ فَالْإِقْرَارُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا عَاجِزًا فَلَا يَكُونُ ابْنُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ لَهُ كَالْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُ أَقْوَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا فَهُوَ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيَحْكُمُ بِعِتْقِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَيَكُونُ ابْنُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ وَمُوجَبُ إقْرَارِهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ حَقُّهُ، فَإِذَا حَصَلَ إقْرَارُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ]
(قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَاسْتِثْنَاؤُهُ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْخَمْسِينَ عَلَى التِّسْعِمِائَةِ وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَثْنًى فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ يَبْقَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ فَجَعَلَ الْكَلَامَ عِبَارَةً عَنْهُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ وَالْبَاقِي وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَكَانَ مُقِرًّا بِهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ كَلَامُهُ لِيَصِيرَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ فَيَكُونُ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا اسْتِثْنَاءً وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْلُحُ مَوْصُولًا مَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْبَيَانِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْإِبْطَالُ لَيْسَ مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا فَالِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَيَطْرَحُ مِنْ الْأَلْفِ قِيمَةَ الدِّينَارِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا فَلْسًا أَوْ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ اسْتَثْنَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ عَدًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: إلَّا شَاةً أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا مِنْ الْعُرُوضِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ وَيَطْرَحُ عَنْهُ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَعِنْدَهُ مُوجَبُ الِاسْتِثْنَاءِ امْتِنَاعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ، فَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمٌ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا دِرْهَمٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ فَلَا يَلْزَمُ الدِّرْهَمُ لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالِاسْتِثْنَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute