مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ بَعِدَ عَنْهُ، وَلَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَقْدِرُ؟، وَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ يَبْعَثُ عَامِلًا إلَى مَوْضِعٍ لِيَأْخُذَ مَالًا، فَيَتَعَلَّلُ الْعَامِلُ بِأَمْرِهِ، وَإِنَّهُ يَخَافُ الْعُقُوبَةَ مِنْ جِهَتِهِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآمِرِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَعُدَ مِنْ الظَّالِمِ، فَلَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الْآمِرِ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَحْتَ يَدِ رَسُولِهِ كَكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَيَتَمَكَّنُ الرَّسُولُ مِنْ رَدِّهِ إلَيْهِ لِيُعَاقِبَهُ بِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ كَانَ فِي سَعَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَرَّزَ عَمَّا هُوَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامَ صَاحِبِهِ بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرُورَةُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى تَلِفَ لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا بِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُكْرِهُ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ، أَوْ الْقَيْدِ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ وَالضَّرُورَةَ بِهَذَا التَّهْدِيدِ لَا يَتَحَقَّقُ.
وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، أَوْ أَخِيهِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، فَقَتَلَهُ، فَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْقَتْلِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ بِيَدِهِ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَنْبَنِي مَا بَعْدَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ أَنَّ لِصَّيْنِ أَكْرَهَا رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا كَانَ ذَلِكَ كَقَطْعِهِمَا بِأَيْدِيهِمَا، فَعَلَيْهِمَا أَرْشُ الْيَدِ فِي مَالِهِمَا فِي سَنَتَيْنِ، وَلَا قَوْدَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ، وَاحِدَةٍ، وَإِنْ مَاتَ فِيهِمَا، فَعَلَى الْمُكْرِهَيْنِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ كَانَ قَتْلًا مِنْ أَصْلِهِ، وَلَوْ بَاشَرَا قَتْلَهُ لَزِمَهُمَا الْقَوَدُ، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ وَاحِدًا، وَالْمَأْمُورُ اثْنَيْنِ كَانَ عَلَى الْآمِرِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ إنْ عَاشَ، وَفِي الْبَدَنِ إنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ لَوْ بَاشَرَ قَطْعَ يَدِهِ، أَوْ قَتَلَهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ وَآخِذِهِ.]
(قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى أَعْطَى رَجُلًا مَالِهِ، وَأَكْرَهَ الْآخِرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ مِنْهُ، وَدَفَعَهُ، فَهَلَكَ الْمَالُ عِنْدَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهُهُمَا دُونَ الْقَابِضِ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ وَالْقَابِضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْجَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ فِي الدَّفْعِ، وَالْقَبْضِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقَابِضُ مُكْرَهٌ عَلَى قَبْضِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَلَا يَبْقَى فِي جَانِبِهِ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute