فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
[مُسْلِمٌ غَصَبَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا]
(مُسْلِمٌ) غَصَبَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ دُونَ حُقُوقِنَا، وَهَذَا لِأَنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ إنَّمَا ضَمَنَّا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَإِيجَابُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُتْلِفِ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ، تَحَقُّقُ هَذَا أَنَّ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَكِنَّ اعْتِقَادَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُتْلِفِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمْ؛ وَلِهَذَا لَا نَحُدُّهُمْ عَلَى شُرْبِهَا، وَلَا نَدَعُ أَحَدًا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي الْأَنْكِحَةِ أَيْضًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، إنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا، وَلَمْ يُجْعَلْ اعْتِقَادُهُمْ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ التَّفْضِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى الْأُخْرَى.
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُرْتَدُّ لَا يَضْمَنُ لِلذِّمِّيِّ بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي اعْتِقَادِهَا، ثُمَّ لَمْ يَصِرْ اعْتِقَادُهُ حُجَّةً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَا ضَمِنَّا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ سَأَلَ عُمَّالَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخَمْرِ فَقَالُوا: نُعَشِّرُهَا فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، وَلَوْ هَمَّ بِبَيْعِهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا، وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ الثَّمَنِ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ اُقْتُلُوا خَنَازِيرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاحْتَسِبُوا لِأَصْحَابِهَا بِقِيمَتِهَا مِنْ الْجِزْيَةِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ أَفْسَدَ تَقَوُّمَهُ بِخِطَابٍ خَاصٍّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: ٩٠] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] فَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ. هَذَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ حُرْمَةَ الْعَيْنِ وَفَسَادَ التَّقَوُّمِ ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَقَصَرَ الْخِطَابُ عَنْهُمْ حِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا الرِّسَالَةَ فِي الْمَبْلَغِ، وَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَالْمُحَاجَّةِ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَيَصِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute