للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَدْلِ لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَتَأْوِيلُهُمْ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْبَاغِي مَا أَتْلَفَ مِنْ مَالِ الْعَادِلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ؟ فَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ

(قَالَ)، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْعَدْلِ سَرَقَ مَالًا مِنْ آخَرَ، وَهُوَ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ وَدَمَهُ قَطَعْته؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ هَاهُنَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنَعَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّأْوِيلِ بِدُونِ الْمَنَعَةِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الْقَطْعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيَتَمَكَّنُ إمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ مِنْهُ بِخِلَافِ الَّذِي هُوَ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّ يَدَ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا تَصِلُ إلَيْهِ، فَلِهَذَا افْتَرَقَا

[أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً]

(قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً قُطِعَتْ يَدُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْإِقْرَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَذَكَرَ بِشْرٌ رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَهُ مَرَّتَيْنِ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَيُعْتَبَرُ عَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ بِعَدَدِ الشَّهَادَةِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ شَرَطَ إقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ فَقَالَ: سَرَقَتْهُ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ» وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَدَدَ الْإِقْرَارِ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ يَثْبُتُ بِإِقْرَارٍ وَاحِدٍ كَالْقِصَاصِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّنَا مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ نَظَائِرِهِ، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَقْطَعْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ أَقْطَعْهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَهُوَ بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي يُرِيدُ إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رَدَدْته بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ رَدِّ الْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالشَّهَادَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بَعْدَ رَدِّ الْمَالِ فَبِالْإِقْرَارِ أَوْلَى؟ وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ دُرِئَ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مَنْ يَرُدُّ جُحُودَهُ إذْ الْقَطْعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ يُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ وَالْمَالُ حَقُّهُ

(قَالَ) فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ أَوْ هُوَ سَاكِتٌ لَا يُقِرُّ، وَلَا يُنْكِرُ لَمْ أَقْطَعْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرَ مُلْزِمٍ إيَّاهُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْهُ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَسُكُوتُهُ كَإِنْكَارِهِ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُنْكِرِ، وَإِنْكَارُهُ بِمَنْزِلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>