يَبْطُلُ حَقُّهُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ»، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا قَالَ {وَاصْبِرْ نَفْسَك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: ٢٨] الْآيَةَ وَنَظَرُ الْقَاضِي لَهُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَفِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَإِنَّمَا يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ بِمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ أَصْلِ بَعْضِ مَسَائِلِ التَّحْكِيمِ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَنَذْكُرُ هُنَا مِقْدَارَ مَا ذُكِرَ فَنَقُولُ الْحَكَمُ فِيمَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ. فَإِذَا كَانَ أَعْمَى، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ عَبْدًا، أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَرَاضِيهِمَا صَارَ حَكَمًا حَتَّى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ يَمْضِ فِيهِ الْحُكْمُ وَالْحُكُومَةُ. فَإِذَا أَمْضَاهَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا فِي الصُّلْحِ.
وَلَوْ دُفِعَ حُكْمُ الْحَاكِمِ إلَى الْقَاضِي فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَوَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوَافِقُ الْحَقَّ أُبْطِلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْيُهُ لَا يُوَافِقُ رَأْيَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُهُ بِمَنْزِلَةِ إصْلَاحِ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا بِحُكْمِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةَ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ الْقَاضِي.
وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ.
وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْحَكَمِ أَنْ يَقْضِيَ فِي إقَامَةِ حَدٍّ، أَوْ تَلَاعُنٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ وَاللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ إلَّا مَنْ يُعَيَّنُ ثَانِيًا وَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ الْقُضَاةُ وَالْأَئِمَّةُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُقِيمُهُ عَلَى نَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُقِيمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَيَّنَ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[كِتَابُ الشَّهَادَاتِ]
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الْمُعَايَنَةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute