للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بَابُ مَوَارِيثِ أَهْلِ الْكُفْرِ]

(قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَارَثُ بِمِثْلِهَا الْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ جِهَاتٌ لِلْإِرْثِ لَا يَرِثُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ نِكَاحٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِالْأَنْكِحَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ نَحْوَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَنِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ آخَرَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي التَّوَارُثِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَقَالَ زُفَرُ: لَا يَتَوَارَثُونَ بِهِمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَتَوَارَثُونَ بِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَتَوَارَثُونَ بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا يَتَوَارَثُونَ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَقْرِيرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ إذَا أَسْلَمُوا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ.

وَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» وَفِي الْإِرْثِ نَوْعُ وِلَايَةٍ لِلْوَارِثِ عَلَى الْمُوَرِّثِ فَلِعُلُوِّ حَالِ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَتَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ يُسْتَحَقُّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ تَارَةً وَبِالسَّبَبِ الْخَاصِّ أُخْرَى، ثُمَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ بِالسَّبَبِ الْخَاصِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْمُرْتَدُّ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَلَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِحَالٍ وَالْمُرْتَدُّ كَافِرٌ فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ» يَعْنِي يَزِيدُ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، وَقَدْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْإِرْثِ مِنْ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ قَبْلَ أَنْ يَسْلَمَ فَلَوْ صَارَ بَعْدَ إسْلَامِهِ مَحْرُومًا مِنْ ذَلِكَ لِنَقْصِ إسْلَامِهِ مِنْ حَقِّهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ بِشَيْءٍ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: ٧٣] هَذَا بَيَانُ نَفْيِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِرْثَ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْإِرْثِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مَالِهِ مِلْكًا وَيَدًا وَتَصَرُّفًا وَمَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبْقَى الْوِلَايَةُ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً، فَقَالَ {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: ٧٢].

<<  <  ج: ص:  >  >>