للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بَابُ مَا أُصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ مِمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ]

(قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بُنِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ إذَا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ عِنْدَنَا وَلَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: ١٤١] وَالتَّمَلُّكُ بِالْقَهْرِ أَقْوَى جِهَاتِ السَّبِيلِ وَلَمَّا أَغَارَ عُتَيْبَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى سَرَحَ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَضْبَاءُ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ: فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَصَدْت الْفِرَارَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى بَعِيرِ الْأَرْغِيِّ حَتَّى وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَضْبَاءِ فَرَكَنَتْ إلَيَّ فَرَكِبْتُهَا وَقُلْت: لَئِنْ نَجَّانِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لَأَنْحَرَنَّهَا وَلَآكُلَنَّ مِنْ سَنَامِهَا وَكَبِدِهَا فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَصْت عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ «بِئْسَمَا جَازَيْتَهَا لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «رُدِّيهَا فَإِنَّهَا نَاقَةٌ مِنْ إبِلِنَا وَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى اسْمِ اللَّهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلِأَنَّ الْمَعْصُومَ بِالْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ كَالرِّقَابِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْعِصْمَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي الْمَالِ وَالرِّقَابِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» فَذَلِكَ دَلِيلُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ حَتَّى لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ وَلَا يَمْلِكُ صَيْدَ الْحَرَمِ بِالِاسْتِيلَاءِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحِلِّ وَالسَّبَبُ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا صَادَفَ الِاسْتِيلَاءَ مَحَلًّا مَعْصُومًا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ.

(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: ٨] الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُهَاجِرِينَ فُقَرَاءَ وَالْفَقِيرُ حَقِيقَةً مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ الْكُفَّارُ أَمْوَالَهُمْ بِالِاسْتِيلَاءِ لَمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمَا قَالَ عَلِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ:

أَلَا تَنْزِلُ دَارَك قَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبْعٍ» وَقَدْ كَانَ لَهُ دَارٌ بِمَكَّةَ وَرِثَهَا مِنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>