وَالْحَرْبِيِّ الرَّاجِعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ حُكْمًا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا.
وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْحَرْبِيَّيْنِ دَفَعَ إلَى مُسْلِمٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ تَنْتَقِضْ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا حَتَّى لَا تَبِينَ زَوْجَتُهُ الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هَذَا السَّفَرُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَلَوْ دَفَعَ أَحَدُ الْحَرْبِيَّيْنِ إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُمَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالذِّمِّيَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ حِينَ دَخَلُوا دَارَنَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ، فَمَا يَفْسُدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْسُدُ بَيْنَهُمْ، إلَّا التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَى حَرْبِيٍّ مَالًا مُضَارَبَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْحَرْبِيُّ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا حَتَّى إذَا لَمْ يَرْبَحْ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَهِيَ كُلُّهَا لِمَنْ شَرَطَ لَهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَحَالُهُمَا فِي ذَلِكَ كَحَالِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الرِّبَا.
وَإِنْ كَانَ رِبْحٌ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لَهُ الْمِائَةَ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ، وَهَكَذَا إنْ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ حَقِّهِ قَدْ انْعَدَمَ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُ فِي مَحِلٍّ آخَرَ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ.
وَإِذَا دَفَعَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ قَدْ أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّبَا أَيْضًا، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ فِي حُكْمِ الرِّبَا كَالْحَرْبِيِّ، وَعِنْدَهُمَا كَالتَّاجِرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الصَّرْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ]
(قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك، فَدَفَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute