للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: ٩٥]، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْعَوْدِ إلَيْهِ، وَجَزَاءُ الْجِنَايَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْعَوْدِ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَائِدِ أَظْهَرُ مِنْ جِنَايَةِ الْمُبْتَدِئِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ عَادَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الرِّبَا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة: ٢٧٥] يَعْنِي مَنْ عَادَ إلَى الْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ - بِالْحُرْمَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَوْدَ إلَى الْقَتْلِ بَعْدَ الْقَتْلِ.

[قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ]

(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: ٩٥] يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَحْرَمَ، إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَشْتَى، إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» فَإِذَا ثَبَتَ أَمْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ الْقَاتِلُ جَانِيًا بِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا مُحْتَرَمًا مُتَقَوِّمًا فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ، وَالْجَزَاءُ قِيمَةُ الصَّيْدِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ إلَّا أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَتَأَدَّى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَفِي التَّأَدِّي بِالْهَدْيِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ أَيْضًا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا الْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْوَاجِبُ جَزَاءَ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَعْنَى الْغَرَامَةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْحِلِّ يَغْلِبُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْمُتْلَفِ بِالنَّصِّ إمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْأَصْلِ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فَكَانَ جَانِبُ الْمَحِلِّ هُوَ الرَّاعِي فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ.

وَأَمَّا عِنْدَنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى جَزَاءِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحِلِّ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِي الْمُبَاشِرِ، وَهُوَ إحْرَامُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ يَجُوزُ لَهُ الِاصْطِيَادُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ وَصْفُ الْمَحِلِّ، وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحِلِّ، وَهُوَ صِفَةُ الْأَمْنِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَحِلِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانُ النَّامِي مِنْ الْأَشْجَارِ النَّامِيَةِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَيَاةِ مِثْلِهَا، وَثُبُوتِ الْأَمْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>