فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ سَرَّحْتُ إبِلِي وَفَارَقْتُ غَرِيمِي أَوْ صَدِيقِي فَهُمَا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُبْهَمَةِ لَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ اذْهَبِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الذَّهَابُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنْ قَالَ اذْهَبِي وَبِيعِي ثَوْبَك، وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ طَلَاقًا فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ عَامِلَةٌ فِي قَوْلِهِ اذْهَبِي، وَقَوْلُهُ بِيعِي ثَوْبَك مَشُورَةٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَعْنَى كَلَامِهِ اذْهَبِي لِتَبِيعِي ثَوْبَك فَكَانَ مُصَرِّحًا بِخِلَافِ الْمَنْوِيِّ؛ فَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الْوُقُوعَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا مِنْك بَائِنٌ، أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَقَعُ وَلَفْظُ الصَّرِيحِ أَقْوَى مِنْ لَفْظِ الْكِنَايَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى سُمِّيَا مُتَنَاكِحَيْنِ وَيُبْتَدَأُ فِي النِّكَاحِ بِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَنْتَهِي النِّكَاحُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَمَحَلُّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمَرْأَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا كَمَا فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا لَوْ كَانَ إلَيَّ مَا إلَيْك لَرَأَيْتَ مَاذَا أَصْنَعُ فَقَالَ جَعَلْتُ إلَيْكِ مَا إلَيَّ فَقَالَتْ طَلَّقْتُكَ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ فَضَّ اللَّهُ فَاهَا هَلَّا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي مِنْك، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ فَقَالَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَكُونُ طَالِقًا مِنْ امْرَأَتِهِ وَمَعْنَى الطَّلَاقِ هُوَ الْإِطْلَاقُ وَالْإِرْسَالُ وَقَيْدُ الْمِلْكِ فِي جَانِبِهَا لَا فِي جَانِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهِ وَالزَّوْجُ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِرْسَالُ فِي جَانِبِهِ، وَلِهَذَا يَكُونُ الْوُقُوعُ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا هُوَ مُطَلِّقٌ لَهَا كَمَا يَكُونُ الْمَوْلَى مُعْتِقًا لِعَبْدِهِ، وَلَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ أَنَا حُرٌّ مِنْك لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَبِهِ فَارَقَ لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ لِأَنَّ الْبَيُونَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ، وَالْوَصْلَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ بَانَتْ عَنْهُ وَبَانَ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحُرْمَةِ يُقَالُ حُرِّمَ عَلَيْهَا وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَمْ تَعْمَلْ بِحَقَائِقِ مُوجِبَاتِهَا وَاَلَّذِي يَقُولُ الْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ بَلْ الْمِلْكُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا خَاصَّةً حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ الْكِتَابِيَّةَ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكِتَابِيُّ الْمُسْلِمَةَ، وَفِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْأَوْلَى أَنْ نَقُولَ مَا ثَبَتَ لَهَا بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute